يتابع يورج سورنسن Georg Sorensenأستاذ العلوم السياسية ونظم الحكم في جامعة آرهوس Aarhus Universityالدنماركية، في كتاب "إعادة النظر في النظام الدولي الجديد"Rethinking the New World Order، والذي نقله إلى العربية أسامة الغزولي، بقوله: ما الدور الذى تمارسه القوة القائدة فى العالم، وهى الولايات المتحدة، فى الحكومة العالمية؟ مع الانتقال من رئاسة جورج دبليو بوش إلى رئاسة باراك أوباما. روج بوش لــ "الحرب العالمية على الإرهاب" باعتبارها أولوية فى السياسة الخارجية، وبأسلوب أحادى بالمعنى الصارم. خفف أوباما التركيز على خطر الإرهاب، ووعد بعهد جديد يقوم على الدبلوماسية والتعاون. الأخطار العديدة تستدعى مزيدا من التعاون "لا يسع الولايات المتحدة أن تنفرد بمواجهة مخاطر هذا القرن".
لكن ذلك لم يترتب عليه تحول أمريكى حاسم باتجاه التعددية بقى التحول الأساسى عند الشكل وليس فى المحتوى الجوهرى.وبهذا المعنى يبدو الفارق بين بوش وأوباما مبالغا فيه تتردد الولايات المتحدة دائما عندما يتعلق الأمر بالتعددية ،لأنها تريد صون استقلالها السيادى فى معالجة مصالحها على أفضل وجه يتيحه الموقف. وهذه الفكرة الأساسية – فكرة أن هناك أحكاما تحددها الولايات المتحدة للآخرين، وإن لم تنطبق هذه الأحكام، دائما، على الولايات المتحدة – هى فكرة متأصلة فى المفهوم التاريخى للاستثنائية الأمريكية. وجوهر هذا المفهوم هو أن أمريكا هى، دائما، قوة خير فى العالم بفضل قيمها السياسية الأساسية ومؤسساتها الديمقراطية. ولهذا تعنى الفضيلة الأمريكية الفريدة أنها تنحاز دوما إلى الجانب الطيب فى كل تحول تاريخى.
وانطلاقا من هذه الفرضية تطلب الولايات المتحدة من الجميع اتباع الأحكام التى يمكن للولايات المتحدة ذاتها أن تستثنى منها. ووفق مورتون أبراموفيتس" الولايات المتحدة تواصل تذكير بلدان كثيرة.. بحقيقة أنها إن كانت تريد أن تصبح جزءا من المجتمع الدولى، فلا مناص من الالتزام بالأحكام.. لكن بلدا واحدا، هو الولايات المتحدة، يمكن استثناؤه من الأحكام، لما يتمتع به من فضيلة.. للولايات المتحدة الحق فى انتهاك قواعد وضعتها هى، ما دام ذلك يخدم أمننا ومصالحنا الأخرى، كما تحددها الإدارات المتعاقبة".
تؤسس الاستثنائية الأمريكية لتعددية براغماتية أو استعماليه، وفق ما تقتضيه المصالح والمسائل المطروحة، وفق شروط داخلية ودولية. وتكون مؤسسات الدولة مفيدة فى بعض الأحيان، وغير مفيدة فى أحيان أخرى ؛ ولهذا تجر إلى المشهد فى بعض الأحيان، وتقصى فى أحيان أخرى. ومن الطرق المتبعة لتخفيف التناقض بين مطالبة الآخرين بالالتزام وبين احتمال التملص منه أن تعزز المؤسسات غير الرسمية، مثل "مجموعة العشرين" التى لديها قدرة محدودة على تقييد القوة الأمريكية والتى تكون الالتزامات فى إطارها غير ملزمة.
وفى المؤسسات الراسخة، مثل مجلس الأمن الدولى، تلتزم الولايات المتحدة، لفظيا، بإصلاحات مؤسسية تتيح للقوى الناشئة دورا أكبر. لكن الولايات المتحدة، فى الممارسة العملية، لم تفعل الكثير بخصوص هذه المسألة، باستثناء مساندتها ترشيح الهند للعضوية الدائمة وجدير بالذكر، على نحو خاص، أن الولايات المتحدة لم تبد مساندة صريحة لترشيح البرازيل ؛ وإن كان ذلك يتصل، اتصالا مباشرا، بامتناع البرازيل عن التصويت على التدخل فى ليبيا، يصبح من الممكن اعتباره إشارة إلى الصلة الوثيقة بين موقف الولايات المتحدة من الإصلاحات المؤسسية وبين تواؤم الإصلاحات مع المصالح الأمريكية.
وللظروف الداخلية أيضا تأثيرها البالغ فى خيارات السياسة الخارجية الأمريكية. الدستور الأمريكى يساوى بين الكونغرس والسلطة التنفيذية فى إدارة السياسة فى الغالب بانقسامات داخل الكونغرس – أن تجعل من المستحيل اتخاذ قرارات بشأن السياسة الخارجية، فى مجالات بعينها، كتخصيص أموال لمبادرات خارجية مثلا، أو عقد معاهدات أو أجراء إصلاحات مؤسسية. ووفق مراقبين عديدين قد وصل الجمود الناشىء عن التحزب إلى مستوى غير مسبوق فى مارس 2015 عندما وجهت مجموعة كبيرة من الشيوخ الجمهوريين رسالة إلى زعماء إيران، يحذرونهم فيها من الدخول فى تفاهم حول السلاح النووى مع البيت الأبيض. وبتعبير آخر تحول المناكفات الداخلية دون صوغ سياسة خارجية متماسكة فى القوة الرئيسية فى العالم.
وإبان الحرب الباردة أفضت المناقشة مع الاتحاد السوفييتى إلى استراتيجية ردع واحتواء أيدتها الإدارات الديمقراطية والجمهورية معا. ومع خروج الاتحاد السوفيتى من الصورة انفكت عرى الانضباط وتزايدت جاذبية الأحادية. وفى العام 1996 كتب زعيم الأقلية فى مجلس الشيوخ توم داشل يقول "أحكمت الحرب الباردة قبضتها على أمريكا وأجبرت مختلف الأطراف على العمل معا لتعزيز المصالح الأمريكية، عبر نظرة دولية ثنائية الحزبية. وتكمن المأساة فى أن تعاونا كهذا صار ينظر إليه كشىء من الماضى".
إضافة إلى ذلك يضعف التعاون بين الحزبين لأسباب داخلية أيضًا: الانقسامات المناطقية صارت أكثر قوة، إذ أصبح الجنوب قاعدة القوة الرئيسية للحزب الجمهورى، وتزايدت الصعوبات فى وجه الائتلافات العابرة للفواصل بين الحزبين وللفواصل بين المناطق. ساعد التفاوت فى مستويات العولمة على تفاقم التفاوتات والتوترات المنطقية ؛ والتحولات الجيلية تؤدى دورا هى الأخرى: جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية يتقاعد وأعضاء الكونغرس الجدد ليسوا متناغمين مع الحلول الوسط بين الحزبين. وقد اعتمدت القيادة الأمريكية للعالم، بعد الحرب العالمية الثانية، على القوة العسكرية وعلى الشراكة المؤسسية مع الحلفاء. هذه التركيبة، وفق تشارلز كوبتشان وبيتر تروبافيتش "انحلت عراها" وتنعكس التحولات التى وصفناها هنا على مواقف الولايات المتحدة فى المجالات الثلاثة للحوكمة العالمية. وبخصوص الأزمة المالية ركزت الولايات المتحدة على الحيلولة دون انهيار اقتصادها، متخذة تدابير استهدفت أيضًا أن يبقى وول ستريت مركزا تمويليا عالميا.