10 أشهر أو أقل من القصف الإسرائيلي المتغطرس على غزة؛ كان كفيلًا أن يُبيد معالم الحياة كافة، فلا علم ولا عمل، ولا تجارة ولا صناعة ولا مأكل ولا مشرب، بعد أن طال الدمار الأخضر واليابس؛ جراء عدوان يُصرعمدًا على إبادة الحياة عن بكرة أبيها في غزة، حتى أن القامات العلمية الذين يشكلون ثروة علمية وفكرية باتوا مُشردين نازحُين دُون عمل أو مأوى، أبرز هذه القامات العلمية البروفيسور الفلسطيني الغزاوي خميس الإسي طبيب تأهيل الأعصاب «إصابات النخاع الشوكي والدماغ والجلطات الدماغية»، والذي تصدر مواقع التواصل بصورة وهو حاملًا «بؤجة النزوح».
يُعرف البروفيسور خميس الإسي الأول عربيًا وفلسطينيًا يُمنح درجة الزمالة الفخرية من جامعة أكسفورد، نفسه في بداية حواره بالفيديو مع «البوابة نيوز» قائلًا: وُلدت بمدينة غزة وأقطن بها وأعشقها، وعدتُ إليها بعد رحلة دراسة طويلة لتحصيل العلم بعدة دول حول العالم؛ أملًا في دعم القطاع الصحي في غزة وفلسطين، فعلى مدار الـ20 عامًا الماضية حاولنا نقل الخبرات العلمية لتدعيم وتخريج أطباء أكفاء مُميزون يُنافسون أفضل الأطباء على مستوى العالم.
ويضيف «الإسي» أقيم في غزة قبل عُدوان السابع من أكتوبر وكنت شاهدًا على تحول القطاع لأطلال وإبادة الحياة به؛ جراء قصف الاحتلال لآلاف الأطنان من المتفجرات على المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، فكان الاحتلال يُحذر بالإجلاء السريع من المنازل والمناطق تمهيدًا لقصفها بوسط وشمال غزة، فنزح ما يزيد عن 400 ألف مواطن نحو الجنوب كان من بينهم الكثير من الأطباء حفاظًا على حياتهم وحياة أسرهم، ولكن بكل صراحة رفضت النزوح خارج غزة؛ بسبب تزايد القصف الشديد ووصول عدد الشهداء يوميًا لـ1000 شهيدٍ في ظل قلة ونُدرة الأطباء بالمستشفيات بسبب «النزوح الإجباري»، فقررت البقاء في غزة داعمًا للأطباء مُحاولين تقديم كل الدعم لآلاف الجرحى والمصابين في ظل ظروف قهرية جراء العدوان.
يُؤكد «البروفيسور الفلسطيني»، والذي يعمل استشاري أعصاب وطب الألم والحاصل على الزمالة الفخرية من جامعة أكسفورد للطب المسند بالراهين والمدرب بالكثير من كليات الطب بالجامعات الدولية في بريطانيا ولندن واسكتلندا، أن القطاع يُعاني من انعدام في كل مقومات الحياة، ولولا شريان الحياة التي تشرف عليه مصر الحبيبة منذ 17 عامًا بعد الحصار لمات قطاع غزة، ولكن هذه الحرب العدوانية كانت مُدمرة للبشر والحجر والنظومة الصحية والغذائية والمائية والكهربائية، حتى بات كل شيء مُدمر عمدًا في ظل 10 أشهر.
ولفت إلى أن بعض الأشياء دمرها الاحتلال عدة مرات حتى لا يمكن إصلاحها مرة أخرى، ومن بين هذه الأشياء بعض المستشفيات: «فلك أن تتخيل أن قطاع غزة كان يضم 36 مستشفى عاملة قبل الحرب، والآن يعمل 3 – 4 مستشفيات جُزئيًا بعد خروجهم عن الخدمة والمنظومة الصحية».. باختصارهذا الدكتور خميس الإسي الذي يحاول أن يُساعد في حمل الهم الفلسطيني وتخفيف معاناة المرض والألم عن الإخوة والأشقاء.
وعن كواليس وتفاصيل صورة البروفيسور الفلسطيني وهو حاملًا «بؤجة النزوح»؛ يقول «الإسي»: سكنت منزلي الجديد قبل بداية العدوان بـ3 أشهر فقط، وكنت أسست عيادتي الجديدة لـ الألم والأعصاب مُجهزة بأحدث الأجهزة الطبية لعلاج الألم وحقن المفاصل، وكان من المقرر افتتاحها بعد الحرب بـ5 أيام فقط، ولكن كل القصف الإسرائيلي بدأ من تل الهو خاصة وأنها منطقة الأبراج، وطال القصف منزلي وعمارتي التي لم أسكنه سوى 90 يومًا ودمرت عيادتي وأجهزتي الطبية وهي جديدة قبل أن تعمل.
يحكي عن رحلة النزوح والعودة بسبب القصف الغاشم على تل الهوى قائلًا: أجبرت على النزوح بأسرتي لمنزلنا القديم بمركز غزة «منزل والدتي والأشقاء» محاولين أن نتأقلم على الوضع الجديد، لم يمر سوى أسبوعين واجتاح الاحتلال المنطقة، نزحنا مرة ثالثة غرب غزة ولم يمر سوى شهر واجتاح الاحتلال منطقة غرب فأجبرنا على النزوح لتل الهوى مرة أخرى وبعد الاجتياح نزحنا للمرة الخامسة لحي الدرج والتفاح، ثم نزحنا للمرة السادة لحي الزيتون، وثم هاجرنا للمرة السابعة إلى وسط غزة ثم إلى غرب غزة ثم إلى الشمال، فتقريبًا نزحت أنا وأسرتي خلال الـ 10 أشهر من العدوان 11 مرة بسبب اجتياح العدوان والقصف لإسرائيلي.
وعن كواليس التقاط صورة «بؤجة النزوح» يقول «البروفيسور الفلسطيني»: يوم 7 يومليو 2024 كنت أعمل في المستشفى وهاتفني بابني بأن الاحتلال بدأ في اجتياح منطقة الدرج والتفاح فركبت الدراجة مُحاولًا الاطمئنان على أسرتي، وحين وصلت وجدت عشرات الألوف من البشر يحملون أمتعتهم للنزوح مرة أخرى لأن الاحتلال يقصف على المنطقة بشكل عشوائي ويطلبون من الجميع الإخلاء فورًا.
ويُضيف حملنا ما تبقى من الأمتعة ونزحنا لغرب غزة، فوصلنا تقريبًا 10 مساءً، فجلسنا في بيت أختي والذي حرقه الاحتلال سابقًا، ورغم التعب والألم حاصر الاحتلال غرب غزة بالدبابات وكان صعب العودة للدرج والتفاح، فنزحنا لـ حي النصر في نفس الليلة فكانت 3 نزوحات خلال 12 ساعة، ورغم الألم والوجع كنت أبعث برسائل فكاهية لنطمئن الأسرة، فضحكت فتاة وقالت: «والله يا عموا أن شبه لوحة جمل المحامل»، وتم التقاط الصورة الأولى وأنا أحمل البؤجة على كتفي والتي أصبحت تريند وكانت في ليلة النزوح من حي الدرج والتفاح، أما الصورة الثانية فكانت في نفس الليلة بغرب غزة، أما الصورة الثالثة كانت الساعة 4 فجرًا في نفس ليلة النزح».
يؤكد البروفيسور الفلسطيني أن الصورة كانت عفوية جدًا، ولكن في الصباح كنت في المستشفى قابلني أحد المرضى وقال لي: «يا دكتور تعرف إن صورتك منتشرة جدًا على مواقع التواصل وأنت تحمل البؤجة على كتفك».. ضحكت جدًا، وبدأ زملائي من الأطباء في نشر صوري وأنا أدرس في الجامعات وفي الحفلات الدولية المؤتمرات العلمية، وبدأ الزملاء ينشروا سيرتي الذاتيه خلال منشوراتهم على مواقع التواصل.
يختتم الطبيب والبروفيسور الفلسطيني أن السوشيال ميدا يستخدمه فقط لنشر المعلومات الطبية والتعايش العادي جدًا، ولم يكن يخطط لذلك ولكن الضحك والفكاهة من رحم المعاناة والألم والنزوح المستمر بين منطقة وأخرى بسبب العدوان الإسرائيلي الغاشم صنع «صورة البؤجة» بالصدفة البحتة.