يمشى على الشارع ذاته، في الموعد ذاته ،
مكتفيًا بما يمنحه المساء من تذوّق متهّل
لطعم الهواء. يأسف كلما لاحظ النقصان
المتزايد في الأشجار الزيتون، حيث تزداد
البنايات ارتفاعًا كآلامنا وتُقَلِّص كمية الفضاء.
لكن الفتيات الصغيرات يكثرن ويكبرن وينضجن
دون أن يخشين الزمن المتربِّص بهن عند
نهاية الشارع النازل إلى الوادي، ينظر
إليهن بلا اشتهاء. وينظرون إليه بفضول ،
ويقلن له: مساء الخير يا عم ! يُحِبُّهنَّ
بلا غصَّةٍ سفرجليَّة، ويحتفي بجمال نضارتهنَّ
وبنضارة آمالهنّ، كما يحتفي بموسيقى، وبلوحة
مائية، وبطائر أزرق الذيل. هُنَّ يستعجلن
الزمن ليصبغن أظافرهن بالأحمر المتحرّش
بثيران خفيّة، ولينتعلن الكعب العالي لكسر
ثمار الجور وإيقاظ النائم. وهو يستمهل
الزمن ليطيل متعة المرور بينهن جارًا لجمال
مستقلّ. ولا بأس في أن يتذكر أنه
عندما كان أَصغر كان يغبط نفسه كلما
مشى برفقة مُهْرَةٍ على طرق أخرى((هل
كُلُّ هذا الكليّ لي؟)) ثم يواصل المشي
على الشارع وحيدًا. يَعُدُّ على أصابع يديه
ما تبقَّى من أشجار الزيتون، ويفرج بغزلان
تتقافز حوله بحياد متبادل. لا يغبط
نفسه على شيء!.. ولا يحسد غيره !
محمود درويش