تشتد سخرية بعض المصريين من الشخص الذي يقرأ المشكلة بعمق ويفسر ويحلل ويقارن، ويصفونه بـ"فيلسوف الغبرا".
والمقصود بـ"الغبراء" ليس الغبار أو العفار، بل الأرض، مما يعكس سخرية من فيلسوف يعنى بشؤون حياتنا اليومية وأرضنا.
يبدو وكأن المشكلة تكمن في التعامل مع الفلسفة أو بمعنى آخر، في السعي إلى العمق ، وبالفعل فالكثير من واقع مشكلاتنا الحياتية، تكمن في غياب العقل الفلسفي، وطريقة التعامل مع الفلسفة التي في أبسط صورها هي محبة الحكمة والأفضل حكمة الحياة، وجذور هذه المشكلة كامنة منذ قرون في العقل العربي فهناك معركة مؤجلة لمصر وللمنطقة معها منذ سنوات طويلة بل قل منذ قرون، ولابد أن يأتي لها وقت وتحسم فهي قديمة قدم ابن رشد فيلسوف العقل والتنوير والذي أخذت بفكره أوروبا والدول المتقدمة فانتصرت علي قيود العصور الوسطي لتدخل عصر الأنوار بكل ما فيه من حضارة عدل ومساواة وحرية ومعركته كانت مع الإمام الغزالي الذي انتصر عليه باعتبار أن الفلسفة أمر تافه.
وتم إهمال العقل من خلال فكره الذي احتفينا به في واقعنا المعاش وأصبح المعبر عنه أبو حامد الغزالي فلم يعد للفلسفة ولا للمنطق وبالتالي الفكر والعلم دور في واقعنا العربي واعتبارنا أن أحياء علوم الدين هو العلم الأساسي والأول لنا كما أن رجال الدين هم "العلماء" وبذلك تحرر أبناء ابن رشد بعقليتهم وتحجر وتجمد أبناء الغزالي الذين صاروا يستهلكون أطنان "التيك واي" أمام شاشات التلفاز غارقون في مهازل السوشيال ميديا والتي دورها الأساسي تمجيد التفاهة واعتماد "نظام التفاهة" منهج وأسلوب حياة ببساطة لأنه يودي إلى الشعبية وفي الشعبية المشاهدات والمكاسب بعد تحقيق الانتشار الضخم.
وهكذا يتم ركل الفيلسوف ومع كل ما يمثله من عمق والاحتفاء بكل تافه في مجاله فترفع الفقاقيع وتغوص وتدفن الدرر.
هذه القضية الهوية في حاجة إلى حسم لأن التراوح بين المذهبين لا يفيد عقلانية ولا يسبب تقدم .بل يعطينا بعض شذرات النور في ليلنا العربي الأسود الطويل المتسرب في ثياب الغيبات باعتباره وكيلها وموردها للعالم، الذي اختار طريقه منذ زمن الإصلاح الديني وقهر قيوده وفك إغلاله.
لقد حاول الدكتور طه حسين وكوكبه من التنويرين علي رأسهم الشهيد فرج فوده مرورا بنصر أبوزيد ومتى المسكين وغيرهم، ولكنهم جزر منعزلة ونقط بيضاء صغير في بقعة العقل الأسود المهيمن، فلا توجد صورة كاملة تجمع التنويرين لتكون لوحة نجاة واضحة المعالم، تجتمع لتصبح بوصلة وبصيرة تهدي وتنير.
هذا التشرذم والتشرذم موجود أيضًا في حكمة جانب آخر من المصريين الذين تمكنوا من التعبير بقوة عن بعض النقاط المضيئة في حكمتهم الشعبية الحاضنة لفلسفة ليست غبراء.
وأقصد بها المثل الشعبي الضامر والحامل لخبرات الحياة. من ذلك أمثال ترفض التدين الشكلي دون الجوهر والسلوك، أذكر منها (اللي يحتاجه البيت يحرم على الجامع وبالتالي على الكنيسة) وكشف زيف المدعين بالقول (جوه الكنيسة قديس بره الكنيسة إبليس) و(يصلي الفرض وينقب الأرض) و(عاملة مصلية وهي شيخة الحرامية).
أي أن المثل الشعبي هنا يبحث عن العمق ويمتلك الفلسفة، لكنه يحتاج إلى قوة التواجد والتحدي ويحتاج إلى منهج عقلاني يتصدى للزيف والتفاهة وبالتالي للأصولية المدمرة.
لذلك لا بد أن تقدم التحية لكل فيلسوف، وعلى رأسهم فيلسوف الغبراء. إفيه قبل الوداع: حبيبي أنت يا فيلسوف (من فيلم "المتوحشة" إنتاج عام 1979). يارب تكون حبيبنا كلنا.