من أجمل ما قرأتُ مؤخرًا عن علاقة الآباء بالأبناء مقال للدكتور جوزيف زيتون، وهو مفكر سورى معروف بعمله فى مجال الحفاظ على التراث والوثائق التاريخية. ولكنى اكتشفت فيه الفيلسوف فى علوم التربية أيضا، وقد لخَّصَ الدكتور زيتون التربية السليمة فى كلمتين لتسهيل فهم واستيعاب هذه العلوم التربوية، وكل كلمة منهما تتكون من ثلاث حروف؛ الأولى كلمة (نمل) بكل ما ترمز إليه الحشرة من قدرة على التدمير رغم صغرها. وقد جمع تحت هذا العنوان الملفت المفاهيم التى يجب تجنبها فى العملية التربوية. أما الثانية فكلمة (نحل) بكل ما ترمز له من عمل ومثابرة واجتهاد - رغم كونها حشرة مثل النمل لكنها عظيمة الفائدة - ولخص فيها ما يجب العمل على تبنيه وتعظيمه.
بالنسبة لكلمة نمل فهى بدورها تلخص بحروفها الثلاثة مجموعة من النواهي، هي: حرف النون ويشير إلى النقد والذى يجب تلافيه فى التعامل مع الأبناء، لأنه يقلِّلُ ثقتهم بأنفسهم ويجعلهم مهزومين فى داخلهم. أمًا حرف الميم، وهو الحرف الثانى فى كلمة نمل، فهو يشير إلى المقارنة التى يجب أيضًا تلافيها حتى لا يتسبب ذلك فى عقد للأبناء، كأن نقارنهم بأخوتهم أو أقرانهم فى المدرسة، أو حتى أبناء الجيران والأقارب؛ ويؤكد الدكتور زيتون على ضرورة التعامل مع كل ابن/ ة كطفل متميز، وحتى اختلافه هو تميّزٌ فى حد ذاته. ويقول إن المقارنة الوحيدة المسموح بها هى بين القدرات وبين الأداء وما يستطيع الطفل القيام به وما لا يستطيع، وهذا هو معنى الاختلاف الإيجابي.
نأتى للحرف الثالث وهو حرف اللام ويشير به إلى اللّوم ومرادفاته - وما أكثرها- وهذا أيضًا علينا تجنبه كما يقول الدكتور زيتون، فاللوم الكثير يشعر الأبناء بالذنب للدرجة التى تفقدهم الدافع النجاح، فى لحظة الضجر، وبالتالى تصبح المحاولة والاجتهاد بلا فائدة، ويدخل الطفل حينئذ فى مرحلة قبول الفشل حتى يهرب من التوتر وضربات الضمير الموجعة. ناهيك عن أن الفجوة تتسع بين الأبناء والآباء إذا سكنت هذه العلاقة فى منطقة مظلمة من النقد والمقارنة واللوم. ولا يمكن أن يبرأ الأبناء من تبعاتها. وللأسف، مجتمعاتنا العربية غارقة فى هذه المنطقة المظلمة، لذلك أمراض الأجيال متوارثة وتولِّدُ كوارث ليست فقط على الحيوات الشخصية وإنما على المجتمعات، خاصة أن الأبناء هم أنفسهم من يحكمون ويديرون الشركات بعد ذلك وكافة شؤون بلدانهم!
والسؤال هنا: ما هو الحل لهذه الأنماط من السلوكيات السلبية الكارثية؟
الإجابة يقدِّمُها الدكتور جوزيف زيتون أيضًا حيث يقترح المجموعة البديلة وهى التى يختصرها بكلمة (نحل) وحروفها الثلاثة التى تلخِّصُ قيمًا تربوية إيجابية؛ والبداية من حرف النون وهو مرادف لمفهوم النجاح. والنصيحة للآباء والأمهات بل وحتى المعلِّمين والمعلّمات بتعزيز شخصية الطفل بالإشادة والثناء والابتهاج تجاه ما يقوم به من واجبات وتصرفات والتعامل إزاءها على أنها دليل على النجاح، إلى أن يتحقق النجاح الفعلى والتقدم الذى يسعد الأهل والطفل على حد السواء.
يأتى بعد ذلك حرف الحاء، وهى تجمع صفات حسن الخلق، وعكسها الخشونة والعنف بأشكاله كافة. وما أحوج البيوت العربية لحسن الخلق، الذى دعت إليه كل الأديان، لكنّ السلوكيات التى نراها فى المسجد والكنيسة غائبة عن حياة الأسر اليومية، وتلك الازدواجية يلمسها الأبناء ويتعذبون بنارها، ولسان حالهم يقول "خيركم خير لأهله".
أخيرًا حرف اللام وهو المرادف للِّينِ؛ وهو مفقود مفقود يا ولدي، فلا لين ومرونة لدى الأهل بل العناد والصلف وعدم الإنصات للأبناء شيمتهم، وينسون قول الله سبحانه وتعالى: (ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
وهكذا فالرسالة التربوية هى محاربة النمل الذى ينخر فى شخصية الطفل من خلال سلبيات النقد والمقارنة واللوم. وفى المقابل الترحيب بالنحل من نجاح وحسن خلق ولين. وما أجملها رسالة، غابت عن الفلسفة التربوية داخل الأسرة العربية خلال التعامل مع أبنائنا. وكم أتمنى أن تستفيد البرامج الإعلامية من شخصيات ورموز عظيمة، مثل الدكتور جوزيف زيتون، حتى ننشر التوعية بالتربية الإيجابية ونعزز العلاقة بين أفراد الأسرة التى تُرِكتْ للفجوات تتسع فيما بينهم حتى أصبح الصدام هو السلوك اليومى العادي، ثم نستغرب بعد ذلك من التداعيات الكارثية كتدهور الاخلاق وغياب الحافز والتفكك الأسرى والعنف والجرائم وغيرها من الأمراض الاجتماعية!
ألفة السلامي: كاتبة صحفية