الأربعاء 29 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الشر السائل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إنه «يجري»، و«ينساب»، و«يتسرب»، و«ينتشر» بشكل خبيث كذوبان المادة في السائل، فهو متخفي غير واضح، وحينما يرتدي الشر ثوب الخير، ويلبس الخائن قناع الناصح الأمين، فهو يجسد «الشر السائل» على عكس ما يمكن أن نسميه «الشر الصلب» الذي يمكن تحديد ماهيته وتمييزه بسهولة.

وهي الفكرة التي ناقشها زيجومنت باومان وليونيداس دونسكيس في كتابهما «الشر السائل: العيش مع اللابديل» وفيه يطرح المؤلفان طبيعة الشر السائل مقابل الشر الصلب وصور الشر المنتشرة في حياتنا اليومية في إطار منظومة استهلاكية، وعمليات تزييف الوعي في مجتمعاتنا كأحد أدوات القوة الناعمة والصناعة الإعلامية.

وكما قدم المؤلفان مفهوم الشر السائل على أنه يرتدى ثوب الخير والشر معًا، على عكس ما نسميه الشر الصلب القائم على رؤية اجتماعية ترى الأمور من خلال اللونين الأبيض والأسود، فهناك داخل مؤسساتنا أشخاص يجسدون الشر السائل، فسيولة الشر ليست في المجتمعات ولكنها داخل بعض الأشخاص يستعرضون أنفسهم كنموذج للحياة المحايدة والمتجردة من الأهواء؛ ولكنهم واقع الأمر فقدوا الذاكرة الأخلاقية.

كل ملامح اتصالهم داخل مؤسساتهم لا تنم إلا عن طيبه فهم يسعون لرسم صورة ذهنية عنهم أنهم متعاونون وملتزمون ومساعدون بينما هم عكس ما يُظهرون، واقع الأمر هم لا يعملون ويستمتعون بإسناد واجباتهم للآخرين، وأفضل لحظات حياتهم هي شعورهم بالأهمية لأنها تشبع النقص الشديد بداخلهم فهم في أعين أنفسهم «صغار»!.

ويسعى الشر السائل الموجود لديهم لدعم التمزق والتفكك والانفصال بين أعضاء أي مجموعة، فالوحدة مصدر إزعاج وتهديد لهم، والأذى مصدر إلهام لهم، وبينما يعملون بمبدأ بث الكراهية بخبث بين الأشخاص يتضررون من العون الودود بين آخرين، ويرون أنه غير حقيقي وتمثيل رغم أن أعماقهم تشتعل بنار صدق هذه المودة.

إن للشر السائل قدرة رهيبة على ارتداء أقنعة فعالة تحت دعاوي زائفة، فلا تدركهم الأبصار بل يتوارون عن الأنظار ويخفون طبيعتهم مروجين: أنا صديقًا مُعينًا لا شيطانًا مَريدًا، مستخدمين القوة الناعمة لخداع الآخرين.

ولكن رغم كل شيء، فالشر السائل الموجود داخل  هؤلاء الأشخاص يجعلهم لا يعرفون طعم الراحة ولا الهدوء فهم يفندون ويحللون المعلومات على مدار أربع وعشرين ساعة في اليوم وعلى مدار سبعة أيام في الأسبوع؛ مشغولين بالآخرين بدرجة مرضية ويستخدمون قدرات الشر السائل على المراوغة؛ فيتوغٌلون في نسيج الحياة اليومية ليبثوا سمومهم بهدوء وتروى في عقول أشخاص ضد أشخاص، وفي ذات الوقت يسعون لتوسيع الفجوة بينهم وعلى النقيض يصورون أنفسهم بصورة مخادعة أصدقاء لا أعداء.

وإذا واجهتهم عوائق تعترض طريقهم؛ فهم يدورون حولها وبقدرة رهيبة يعملون على الالتفاف عليها أو على إذابتها حتى يخترقوها، ومثل هذا الشر يقصد تقبيل أيدي من هم في السلطة، ظنا منهم أنه يخدمهم وإيمانا منه بأنه سيطر عليهم ووضعهم في جيبه الأصغر، ونبههم وحفزهم على التصرف الحاد لطمس الحد الفاصل بين الحرب والسلام مؤكدين على مبدأ أن الحرب هي السلام. 

أصحاب الشر السائل يتعبون ويبذلون الجهد، يمارسون ألاعيب نظرية الإغواء والانسحاب، يغيرون من شكلهم طوال الوقت، وما هي النتيجة؟ تستحوذ عليهم نزعات التشاؤمية والخوف وعدم الطمأنينة، يشعرون أنهم مهددون طوال الوقت، خاصةً من نجاح غيرهم، فطوال الوقت يرون مهما حققوا، أن الآخر أفضل منهم، ويظلون يلهثون في دائرة مغلقة هي محاولة الاستمتاع بالشر والفرح لما يصيب الآخرين من أذى ولكنهم طوال الوقت معذبون يزعجهم نجاح غيرهم ويحترقون بنيران إحساسهم بالنقص وعدم كفايتهم وتركيزهم على الآخرين وصورتهم السلبية لدى الجميع بلا استثناء، ولم لا فهذا مبدأ الزرع والحصاد!