هنا في غزة، تختلف طبيعة الحياة ومجرياتها عن أي بقعة من بقاع الأرض، فلأهل غزة طبيعتهم الخاصة وقوانينهم الفريدة، فهم ينسجون خيوط الأمل من الأشلاء والعدم ويبنون بيوتًا من الحب والدفء من آثار الهدد والخراب، وتعلو أصواتهم بالحمد والثناء على نعم الله لتغطي على صوت الرصاص والمدافع، عندما تتأمل في الصورة من بعيد لا يخطر بذهنك سوى عبارات الحزن واليأس والغضب وعبرات الفقد والوداع وأنين الجرحى وصرخات الأمهات الثكلى، ولكن عند اقترابك من المشهد ترى ما لا تصدقه عيناك ويفيض قلبك بالوجد ولا ينطلق لسانك لتوصف ما تراه من مشاهد تتغلب على كل ظروف الحياة القهرية هناك.
النساء في غزة يمتلكن قلوبًا لا تعرف اليأس، فاصطفوا حول بعضهم البعض لعمل "صواني المعمول والحلوى"، حتى لا ينتهي العيد دون تواجد المخبوزات، فجلسوا على مفارش من الصوف والبلاستيك أمام فرن ألومنيوم بسيط ينقشون رسومات الحلوى والكحك لإدخال البهجة على نفوس من تبقى لهم من أبناء، وتحيط بهم الأشلاء والحطام من كل جانب ومن فوقهم طائرات العدو، أما تحت الأرض فله النصيب الأكبر من الدماء الذكية وأشلاء الضحايا الذين لم تستطع فرق الإنقاذ إخراجهم بعد، ووسط هذا المشهد الكئيب المروع قد بسطوا بساط من صوف وقاموا بتجميع "الصواني" من بعضهم البعض وأحدهم قد ساهم بالدقيق وآخر بالزبدة وآخر بأسطوانة الغاز التي يحصلون عليها بعد معاناة.
"ربنا ما يقطعلنا عادة.. كنا لازم كل سنة نفرح اللي حوالينا"، هكذا بدأت السيدة الفلسطينية "أم العبد محمود" حديثها مؤكدة أنها اضطرت لترك منزلها في لاهيا شمال قطاع غزة وهي على مشارف الستين عامًا بسبب الحرب الأخيرة لتستقر بأحد مراكز الإيواء، وقد صممت على إعداد المعمول هذا العام ولو بكميات ومعدات بسيطة فتشاركت الفكرة مع من حولها من نازحين، وقد تشاركن بإعداد الحلوى والمعمول وكذلك في المكونات وإعداد العجين وتشكيله بطرق بدائية منها أعواد الكبريت، وأضافت "كل النساء اللى فى مركز الإيواء جُدن بما لديهن من طحين وبهارات كحك وسميد، وعملنا عددًا لا بأس به من صوانى الكحك لتوزيعه على النازحين".
وأشارت، إلى أنه قبل بدء الحرب، ومع كل عيد فطر كانت تجمع جيرانها من النساء، يتشاركن معًا فى إعداد مخبوزات العيد والمعمول والبسكويت والغُريبة، لكن مع تبدل الحال وتغير الظروف المعيشية لم تعد نساء غزة قادرات على الاحتفال بالعيد ولا اتباع الطقوس الفلسطينية: «تبدل حالنا تمامً بعد الحرب، لكن قلنا لازم نفرح الأطفال رغم الحزن، كفاية إنهم لم يعيشوا براءتهم ولا طفولتهم ولا هيفرحوا بلبس العيد، قلنا الكحك كأحد مظاهر الاحتفال هيفرحهم حتى لو مكوناته بسيطة، لكن فرحته كبيرة.
لا تتمنى السيدة الفلسطينية سوى العودة إلى دارها وتجميع أحبابها بعدما فرقتهم قوات الاحتلال: "نفسى نرجع بيوتنا تانى ونرجع نتجمع ونعمل معمول زى زمان، نفسنا نحس بالأمان بدل رعب الصواريخ والدبابات، نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا".
وعبرت السيدة الفلسطينية عن امتنانها باهتمام الشعوب العربية وخاصة مصر بمتابعة أخبارهم والدعاء لهم والوقوف معهم قلبًا وقالبًا، قائلة" الناس بتحبنا وبتدعيلنا وولادنا في الجنة بيدعولهم"، مؤكدة أن العالم أجمع يتعجب من صمودهم وإيمانهم قائلة" لم تكن تلك الظروف أمنينا، فالحزن يملأ قلوبنا والاكتئاب واليأس قد تملك منا ببشاعة، ولكن قد كتب الله علينا هذه الابتلاءات الصعبة في الأولاد والاستقرار والبيوت والغذاء فلازم نصبر ونرضى ونصمد لحد ما أجل ربنا يحل علينا ويشملنا برحمته وعطفه والحمد لله في السراء والضراء".