في فيلم "السلم والتعبان" الذي أعادت إحدى المنصات الشهيرة طرحه مؤخرًا بعد أكثر من 20 عاما على صدوره، اكتمل لدى المخرج طارق العريان الأسلوب الأمثل في تصوير المدينة مسلوبة الهوية، مشروعه الذي وضع بذرته في أول فيلمين له: "الإمبراطور 1990" و"الباشا 1993"، ليختتم ويتوج ذلك المشروع بـ"السلم والتعبان 2001" ثم يتحول بعد ذلك طيلة مسيرته إلى مخرج تجاري صرف حيث لم يقدم فنا مختلفا عن السوق مقارنة بالثلاثة أفلام سالفة الذكر، إلا إذا فاجأ جمهوره في التجربة المرتقبة التي أعلن عن خوضها منذ أسبوع مع المخرج الأمريكي مارتن اسكورسيزي.
في "السلم والتعبان" الذي يدور حول قصة حب تحدث في القاهرة، لا صورة سوى صورة المدينة الأمريكية ذات الأبراج العالية التي تضم شركات رأسمالية كبرى أغلبها تعمل في الاستثمار والتسويق والدعايا والإعلان، لا وقت لإعداد الطعام في تلك المدينة حيث توجد سوبر ماركات ضخمة تحتوي على معلبات سريعة التحضير بالإضافة إلى مطاعم الدجاج المقرمش والبرجر والبيتزا وصالات الرقص المليئة بكافة المأكولات والمشروبات، أي أن الإشارات التي تدل على أنها مدينة مصرية تعد على أصابع اليد.
هذه الإشارات تتمثل في صور قليلة للنيل -التقطت من كوبري قصر النيل وكورنيش العجوزة- الذي يلجأ حازم بطل الفيلم إليه لسرد أحزانه، بالإضافة إلى صور لشاطئ شرم الشيخ وشمسه الساطعة، أما الإشارة الأخيرة والأبرز للوجود المصري هو أن شخصيات الفيلم تتحدث بالعامية المصرية، تتحدث في "تراك صوت sound track" يظهر دائما منخفضا عن كافة الأصوات المحيطة به، فصوت فتح كانز الكوكاكولا مثلا يبدو جهوريا أكثر من صوت الشخصيات.
والذي جعل فكرة تصوير المدينة مسلوبة الهوية تكتمل هو بساطة القصة إذ تعتبر قصة مجردة تماما من أي ملامح للهوية والأيديولوجيا، فهي قصة حب مكررة بين رجل وامرأة، وهذه القصة المجردة سمحت للصور والأصوات في صياغة قصتها الخاصة العميقة المعذبة المفعمة بالدلالات.
إن صور الشركات المبنية على طراز مدرسة شيكاغو في العمارة وصور مطاعم الدجاج والبيتزا والأجهزة الحديثة وصالات الرقص الأجنبي وكل أشكال الراحة والاستهلاك الأمريكية بالإضافة إلى الموسيقى البحتة التي غلفت الفيلم واعتمدت على الآلات النحاسية الموزعة بالـ “سوفت ويير soft ware music” وليست عن طريق التسجيل التقليدي حيث العازفين البشر -وهذا له دلالته أيضا في المدينة الجديدة- كل هذه الصور والوسائل الحديثة خلقت شخصا غير قادر على الحب بل غير قادر على الحياة عموما لا يعرف ماذا يريد، هو يتوهم أنه يحب النساء لكن ممارساته تدل أنه يحب أسلوب الحياة أكثر من النساء، والحياة بالنسبة له هي التخطيط لمطاردة النساء وكأنه بتحقيق التواصل العاطفي مع أكبر عدد منهن وفي أضيق وقت سيفوز بجائزة كبرى، وهذا وهم عظيم يبدأ في التبلور حينما تظهر أشباح امرأة -كان قد قرر الابتعاد عنها- وتطارده وتحوله إلى شخص هيستيري مجنون يسب عملائه في الشركة الضخمة.
إن الصور الجميلة لحبيبته، وهي تبتسم، وهي ترقص التانجو، وهي تشرب المياه الغازية ذات الماركة العالمية الشهيرة وتأكل البيتزا ذات الماركة العالمية الشهيرة، وتدخن السجائر ذات الماركة العالمية الشهيرة وتتبضع داخل المولات الضخمة وتشاكسه وهي تتسكع معه في شوارع القاهرة الفاطمية، تلك الصور تتهجم عليه في كل لحظة وتفترسه افتراسا في عصر ما عادت فيه الذاكرة البشرية قادرة على نسيان الصور بسبب امتلاك الأفراد للكاميرات ولوسائل عرضها كالفيديو كاسيت الذي كان يعيد حازم تشغيله مرارا وتكرارا لرؤية وجه حبيبته في تعبيرات وأوضاع مختلفة، وأثناء مشاهد عذاباته، تدخل على موسيقى السوفت ويير أصوات بشر تغني وكأنها أصوات ملائكة تهبط من السماء لتمسد على كتفيه.
إن مدير التصوير والمخرج في هذا الفيلم قد صنعا كادرات لحلا شيحا -التي لعبت دور ياسمين حبيبة حازم- هي الأجمل على الإطلاق في كل الصور التي خرجت فيها حلا شيحا على الشاشة طيلة مسيرتها، ورغم أن مدير التصوير ليس طارق التلمساني إلا أن أسلوبه في توزيع بقع الضوء على المكان والشخوص يتطابق مع أسلوب التلمساني، تصوير أظهر المدينة وهي في قمة صلابتها ضد عتمة الليل وقسوة الشتاء، لكنها أيضا صورت آلهة الوداعة والضياع والعذاب في عيون حازم (هاني سلامة).
قد تفرض ضروريات الجمال هنا أن تتعانق الآلهة في عيون حازم مع الصور المفترسة لياسمين مع أصوات الملائكة في السماء ويسلمون جميعهم أنفسهم إلى النيل، لكن المخرج أراد نهاية شرقية مصطنعة ومستهلكة وهي أن يقوم الذكر بصنع معجزة يعيد بها الأنثى من جديد ويتزوجها في عرس بهيج لكي يخرج الجمهور من السينما وهو سعيد وتوتة توتة خلصت الحدوتة وهي ليست حدوتة هي عمل فني جميل.
في البوستر الرسمي للفيلم الصادر في 2001 تظهر يتم تقسيم المساحة إلى نصفين، يضم النصف السفلي صور الـ 3 ممثلين هاني سلامة وحلا شيحا وأحمد حلمي بنفس الترتيب من اليسار لليمين، ويوجود إطاران متداخلان يحيطان بوجوههم وجه هاني وحلا داخل الإطار الكبير ووجه أحمد حلمي بمفرده داخل الإطار الأصغر أما في النصف الأعلى تظهر صورة كبيرة لطارق التلمساني يقابلها صورة صغيرة لهاني وحلا وهم يسيران بجوار بعضهما وهاني يضع يده على كتفها.
ربما يكون الشئ الوحيد المتوافق مع موضوع الفيلم من وجهة النظر التي طرحتها في المقال هو الخلفية السوداء في البوستر وحالة البهتان العامة التي تسيطر على جميع الألوان والذي قد يدل حالة الضياع العامة التي سيطرت على البطل ومدينته، فضلا عن عنوان الفيلم نفسه السلم والثعبان الذي توسط المساحة بفونط أحمر عريض تلك اللعبة التي تشبه لعبة البورصة والعصر الرأسمالي عموما حيث حلم الصعود اللحظي والهبوط اللحظي أيضا، وبخلاف العنوان والخلفية فأن جذب المشاهد المصري لدور العرض كان هو الشغل الشاغل للبوستر، وهو الذي يفسر وضع صورة أحمد حلمي بمساحة أكبر من مساحة حلا شيحا وتتقدم عليها، وكأن البطولة ثلاثية رغم أن البطل الرئيسي في الفيلم هو الكابل هاني وحلا، لكن لأن وجود أحمد حلمي هو الرهان لجذب المشاهد فقد تم تصديره كبطل رئيسي حيث أن أحمد حلمي في هذه الفترة كان قد حقق جماهيرية كبيرة بعد مشاركته في فيلمي الناظر وعبود على الحدود ولا مبرر لوجود صورة لطارق التلمساني سوى الإيحاء بأن في الفيلم شخصيات عدة، فكان دور التلمساني في الفيلم كان دورا ثالثا.
جزء كبير في تصميم البوستر الرسمي للفيلم كان غارقا في المجانية فالصورة السفلية لحازم وياسمين (حلا شيحا وهاني سلامة) توحي بأنهما في علاقة حب والصورة العلوية تؤكد أيضا على أنهما في علاقة حب، أيضا البوستر يضم حجري نرد يتدحرجان في فضاء الصورة والعنوان أيضا "السلم والثعبان" يعطي نفس الصورة لحجر النرد، وهذا قد يشير إلى أن الشرة ربما تكون استعانت بأحد موظفيها الهواة في التصميم أو شخص صممه بدون اكتراث، لكن لم يهمها الاستعانة بفنان تشكيلي متخصص في هذا الغرض.
الأمر اختلف كثيرا مؤخرا حينما اشترت إحدى الشركات حقوق الفيلم لترويجه عبر منصتها، فلم يهتم بوسترها بجذب المشاهد لدار عرض، بل اهتم للترويج لنظرة الشركة التقدمية في مفهوم العلاقات العاطفية، فلم يهتم أن يبرز صورة الكوبل حلا وهاني للترويج لقصة حب بين رجل وامرأة، بل اهتم بإبراز صورة تضم أحمد حلمي وهاني سلامة وهما ينظران إلى بعضهما باهتمام وجدية، هذا كان البوستر الكبير بينما البوستر الصغير يضم حلا شيحا لوحدها في بورتريه مشمس وإطلالة توحي بالحزن.