في فيلمه الأخير poor things، ظهر المخرج الإجريجي يورجوس لانثيموس كشخص ناضج فنيا بشكل كبير. أتذكر أنني شاهدت للإنثيموس منذ زمن بعيد فيلمه dogtooth الصادر عام 2009 ولم يعجبني بسبب كتابته الغارقة في الذهنية والذي بدا كفيلم تعليمي يبسط إلى طلبة المعرفة نظرية ما، وفي الأفلام التي تلت dogtooth بدأ لانثيموس يسير على نفس النسق مع تطور ملحوظ في فلسفته الخاصة بعلاقة الصورة بالنص، مثلا في فيلمه مقتل الغزال المقدس the killing of a sacred deer الصادر عام 2017 كانت كل الأحداث تسبح في فضاء أزرق متعدد التونات.
فجأة، قرر لانثيموس أن يتوقف عن كتابة أفلامه، ويسمح لقصص أخرى (كتبت منذ سنين وعرضت على الناس) أن تتحول إلى أعمال سينمائية، أيضا، قرر أن يسمح لأعماله بمشاركة ممثلين لديهم خبرة كبيرة كفيلة أن تضيف للمشاهد بعدا آخر خارج توقعات المخرج، وهذا تجلي في فيلمه السابق "الفائدة" the favourite 2018 وازدهر في فيلمه الأخير 2023 poor things، مع تطور ملحوظ أيضا في تكنيك التصوير.
في poor things اتخذ لانثيموس منحًا تجريبيا واسعا في التصوير حيث فرد مساحات ضخمة ومرعبة للـ"موشن جرافيك"، وأصبح لديه جدلية تؤرقه في علاقة الفيجرز figures بالخلفيات، فلو كانت شخصية ترتدي ثوبًا به تونات tones من الأزرق والأحمر والأصفر؛ فما المانع أن يكون الفراغ المحيط بتلك الشخصية عبارة عن منحنيات من الأزرق والأحمر والأصفر؛ وبالتالي تظهر الشخصيات وكأنها قطعة منتزعة من فراغ شاسع وواسع، وهذا خدم النص بشكل كبير حيث جعل الصراع الدائر بين الانثى والذكور كأنه صراع بين إله الأنوثة وإله الذكورة في حضارة من الحضارات القديمة.
لك أن تتخيل كيف أن الجموح الذكري وهوسه بالاكتشاف وتعرية الأشياء يقود الدكتور جودين باكستر (لعب دوره ويليام دافو) الذي لقى جثة لسيدة انتحرت (لعبت دورها إيما ستون) وهي حامل لأن يفحص الجثة فيجد أن الأم قد ماتت بالفعل لكن الجنين لازالت به الروح، فيخرج الجنين ويفتح رأسه وينتزع منها المخ ليركبه في رأس الأم بدلا من مخها التالف فيبدأ جسمها الأنوثي الناضج في التحرك من جديد ولكن بعقل جنين لم يتعلم فروض المجتمع ووصاياه لكن الجسم أنوثي فارع وجاذب يتحرك وفق أحاسيسه بلا ضبط أو ربط.
هذا الجسم (بيلا باكستير- إيما ستون) يكتشف أن مداعبته تشعره بالسعادة، فأصبح يدخل مع كل من يقابله في دائرة المداعبات تلك، وهذا جعل الذكور، الذين خلقوه وحاولوا امتلاكه، في حالة تطاحن مع بعضهم طيلة الوقت، الدكتور الذي خلقها يحبها لكنه عاجز جنسيا فيفرض على تلميذه (لعب دوره رامي يوسف) أن يتزوجها في مقابل عقد يمتلكهما بها للأبد، فيشعر المحامي الذي استدعاه الطبيب لإبرام التعاقد (لعب دوره ماك روفالو) بشئ غير إنساني وأخلاقي في هذا العقد فيقرر أن يأخذ بيلا ويهرب بها لمكان بعيد ويحاول أن يمتلكها أيضا.
وخلال الرحلة يتعرض لانهيارات بسبب عدم استطاعته السيطرة على جموحها الجنسي حيث مارست الحب مع كل شخص قابلته في تلك الرحلة، وأخدت فلوسه كلها وأنفقتها على الغلابة والمساكين وأصبح هو متسولا في شوارع باريس، أما هي فقد عثرت على بيت للبغايا في أحد ضواحي باريس احتواها وأحبته جدا حيث في هذا البيت تستطيع أن تلتقي إناسا يداعبوها ويوصلونها للسعادة ويمنحونها نقودا أيضا.
أصبح التعامل مع هذا العدد الضخم من الرجال يحل لديها الأزمة التي بسببها امتلاك ذكر واحد لها، ففي مشهد تقول للمحامي بعد أن مارسا الحب: "هذا شئ جميل جدا لماذا لا نفعله مرة أخرى الآن" فرد عليها بأن الذكر له حدود وليس كما الأنثى.
ألاعيب الذكورة والأنوثة غلفت محور أعظم أعمال أوربا سواء في الأوبرا والمسرح والسينما والفن التشكيلي.. لا ننسى مثلا بجامليون لجورج برناد شو وأوبرا كارمن لبيزيه وبيلا دي جور للويس بونويل لتتوج هذه المسيرة في الفن الأوربي بفيلم الأشياء المسكينة أو poor things للانثيموس.