هذا الصباح استطاعت فيروز أن تخطفني من أفكار كثيرة كنت أسيطر عليها بهدوء فنجان قهوة سادة لطيف الوطأة. تأتي عادة بداية اليوم بالكثير من الأفكار حول ما ستفعله طوال اليوم. أنت الآن على وشك أن ترتدي ملابسك وتبدأ محاولتك اليومية لتغيير العالم كما تريد. هذا ما يعنيه فنجان قهوة الصباح. حين تقتحم فيروز هذه العلاقة بينك وبينه بصوتها: "فيه أمل. إيه فيه أمل.. أوقات بيطلع من ملل.." حينها تبدأ في التفكير أكثر في هذا الأمل الذي يسكن الملل من حولك.
تبدأ في التفكير في تيمة هذا الإبداع الذي يولد من رحم المعاناة. ليس بمعنى أن كل إنسان عاش حياة صعبة هو بالضرورة مبدع يقدم إبداعه حين تدفعه لذلك مأساة. إنما أعني معنى أن الحياة العادية تقدم لك كل لحظة أملًا من ملل. ترى هل يوجد ذلك بالفعل؟ وهل مشكلة رؤيتنا له تكمن في أننا لا نجيد الرؤية أم حثًا لأنه يجيد الاختفاء؟ أم هو حق غير موجود والأمل هو مجرد إرادة تتكون في أعماقنا تدفعنا لأن نفعل أفعالًا تغير الحياة؟!
إن الحياة في واقعها قابلة للتغير في كل شيء وكل وقت. تتجاوب مع العقل البشري بطريقة فريدة تجعله حين تسكنه الشجاعة يبادلها سجالًا بسجال في سعي كل منهما لتغيير الآخر. الحياة تخضعك لقوانينها، فمن قبلك صاغوا قوانين سارت بها حتى اليوم، وأنت تستطيع أن تضع قوانينك لكنك لا تستطيع أن تجعلها قوانين الحياة حتى تجعلها تساير قوانينك وتحقق بها التغيير الذي يسعى له الآخرون.
رأينا ذلك في لحظات مضيئة من الحياة. احتل رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل منصبه في ظروف صعبة تمر بها بلاده. لم تكن كل قراراته قرارات يتفق عليها العالم، لكنه بلا شك قدم نموذج حكم أفضل من ذلك الذي قدمه نظراؤه في أوقات الرخاء. رغم أنه كتب في مذكراته عن لحظات ضعف كادت توقعه إلا أنه حولها بذكاء للحظات قوة، وظل حتى آخر أيام حياته يتألم بسبب التضحيات بأشخاص اضطر للتضحية بهم بسبب ضرورات القرار السياسي الصحيح. كان يمارس الرسم كي ينظم عقله أولًا قبل الشئون التي يحكمها. وحين وضعت صورته على عملة اختاروا من جمله جملة استغرب لاختيارها الكثيرون، إذ عبرت عن الضعف أكثر مما عبرت عن القوة.. ربما أرادوا تقديم إنسان وصل للقمة، والضعف هو الإنسان. الجملة كانت "ليس لدي ما أقدمه سوى الدم والدموع والعرق". فهل جاء الأمل من الملل لتشرشل؟!
إن الحياة الجميلة التي يركض حولها الجميع أملًا. يجدها الكثيرون حين يفقدون الأمل في البحث عنها. ويترجم ذلك بعض الفلاسفة بأن الرضا هو السعادة. أظن هنا أن الإنسان يملك كل ما يريد لكنه لا يجبد رؤية ما يملك. لذا حين يقرر اختيار الرضا فإنه يفاجأ بما يملك في حركة هادئة. لا تنسى أن القارب يغرق حين يشتد التيار ويسير نحو وجهته حتى لو كانت الأمواج ساكنة إذا استخدمت مجدافًا. أليس هذا هو الرضا؟! عواصف الإحساس المبالغ فيه غير باقية وترفع سقف توقعاتك حين تنتهي. وتصيبك بالإحباط حين لا تعود. فهل يكون هنا الأمل من الملل هو الرضا؟!
كانت أمي ترى دائمًا أن المشاكل ليست مصممة لأحد بعينه، هي موجودة على الدوام لأن وظيفتنا أن نأتي إليها ونقدم الحل. نحن لا نختص بتقديم المشكلة بل بتقديم الحل. كان هذا رأيتها الشخصي وأحسبها من الأشخاص الذين تعاملوا مع الحياة في مستوى أعمق إلى حد كبير. لذا يوجد الأمل في داخلك فلا تعطي الملل حولك أكبر من حجمه في قدرته على القضاء على أمل لا يملك إيجاده أو إفنائه. أنت هذا الذي يتحكم في عجلة القيادة لكن عليك أولًا أن ترى الطريق. وهو ما أحب قوله لطلبتي دائمًا بعبارة: "املأ عقلك الأول وهو هيحرك إيديك ورجليك بعدها ناحية هدفك". الآن سأكمل قهوتي وأسمع فيروز مرة أخرى.
*أستاذة بقسم الإعلام – آداب المنصورة