يُعّد نهر النيل هو شريان الحياة في مصر، ولا توجد مياه للمياه العذبة سوى النيل ومياه الأمطار، وبعض الآبار التي هي في الأغلب آتية من النهر أو من تجمعات مياه الأمطار، ولندرة المطر في مصر يعتبر النيل هو المصدر الرئيس والأساسي للحياة في مصر.
والنيل عند قدماء المصريين يدعى "أر" أو "إل"، وفي الديموطيقية صار اسمه "ن-إل-و"، النون أداة التعريف للجمع المذكر و«إل» معناها النهر والواو علامة للجمع، فكانت كلمة نيلو والتي منها تم اشتقاق الكلمة اليونانية Neilos، والصاد في نيلوص تطابق الحرف 16 من الأبجدية اليونانية.
تقديسه في المجتمع المصري
أدرك قدماء المصريون أهمية نهر النيل وبجلوه وقدسوه واعتنوا به أشد العناية، وقد بدأ ذلك قبل آلاف السنين.
وحسب ما جاء في موسوعة الدكتور سليم حسن "مصر القديمة"، فإن الإنسان المصري القديم وقبل آلاف الأعوام كان يستوطن غابات الصحراء الغربية، قبل أن يصيبها التصحر وتجف، فما تحولت إلى صحراء قاحلة بسبب تغير المناخ. ثم هبط الإنسان المصري إلى وادي النيل، وبدأ يتعلم الزراعة، ويستقر حول ضفاف النهر، والاستقرار نتج عنه بناء المجتمع.
وبدأ المجتمع المصري في النمو، وبدأت تتكون القرى والمدن والتي اتحدت في قطرين كبيرين الشمال والجنوب، ثم جرت محاولات توحيدهما حتى نجح في ذلك "نعرمر"، وهو الملك الشهير بـ "الملك مينا" موحد القطرين.
أدرك المصريون القدماء من بعد وحدة بلادهم مدى أهمية النيل، ومدى ما يمثل من قوة استراتيجية اقتصادية هائلة، فهو الطريق السريع الرابط بين البلاد من الشمال وحتى أقصى الجنوب، وأتقن المصريون ركوب النهر ونقلوا عبره البضائع والأفراد وكان بالنسبة لهم أسهل من التنقل البري.
الصيد والبردي
النيل أيضًا كان مصدرًا غنيًا للأسماك، واحترف أهل مصر على ضفتي النيل الصيد بالشباك والرماح.
كما كان النيل هو مصدر أوراق البردي، وهو النبات الذي استخلص منه المصريون الأوراق التي استخدموها في تسجيل ما يريدون. وكان ورق البردي فتحًا في الحضارة المصرية، حيث أصبحت الكتابة عليه أيسر وأسهل من النقش على الأحجار، ومن الكتابة على العظام وشقف الفخار.
الفيضان والزراعة
المؤثر الأول لنهر النيل كان الزراعة، فهو المصدر الأوحد للمياه اللازمة للزراعة، وكان الفيضان والذي قال له المصريين «آخت».
وكان المصريين ينتظرون قدوم الفيضان، ويعتبروا قدومه هو قدوم الإله "حابي"، وكانت "ميهيت" و"ريت" هي آلهة الفيضان، ومعناها الفيضان العظيم، وكان الفيضان هو السبب الرئيسي في خصوبة الأراضي المصرية.
النيل والموت
اعتقد المصريون أن النيل هو الممر بين الحياة والموت، لذلك دومًا نجد أن المدن على الضفة الشرقية للنيل وفي الضفة الغربية نجد المقابر من أول الجيزة وحتى وادي الملوك والملكات في الأقصر، فكان يتم ركوب النهر بالمتوفي لكي يُدفن في الجانب الغربي.
الفيضان
اعتبر قدماء المصريون الفيضان رمز للخير والنماء، واعتادوا على أوقاته، وأعطوه اسمًا مميزًا وهو "آخت".
ولاحظ المصريون أن الفيضان يأتي في أوقات مناسبة على نحو دقيق، فيفيض في الصيف وقت احتياج الأرض للماء، فيجدد خصوبتها، وينحسر في الأوقات المناسبة للزراعة، فهنا يقوم المزارع ببذر البذور، وكانت بداية اهتداء المصري القديم للتقويم.
تقديس النيل
مجّد القدماء النيل واعتبروه إله الخصب والنماء، ومانع الجدب والقحط، وكانوا قدمون القرابين في المعابد إن تأخر الفيضان، وقالوا عن النيل أنه هو ابن الإله "رع".
وسجلت إحدى البرديات عن النيل: «إنك أيها الراحل فى مقام الخلود، سيفيض عليك النيل فى مضجعك الأخير أثرًا من بركاته لأن ماءَه آتٍ من أسوان».
وأطلقوا على النهر "إيتِ نترو" أى أبو الآلهة. وقال هيرودوت: "إن النيل تُعرف بدايته بعد سفر أربعة أشهر، سواء كان ذلك برًّا أو بحرًا"، وهي المدة التى كان يستغرقها المسافر فى وصوله إلى أسوان.
وكان لكل إقليم نيله الخاص، فأطلقوا على نيل الصعيد "حعبي رسيت/ نيل الجنوب"، ونيل الدلتا "حعبي محيت/ نيل الشمال"، وكان لكل نيل صورة في مخيلتهم، فنيل الدلتا رجل ضخم يرتدي رداء عليه ثمار النيل في الصعيد ولونها أزرق، ونيل الصعيد رجل يرتدي رداء عليه ثمار الشمال.
مقاييس النيل
كان لقدماء المصريين فنيون يجيدون حساب وقت الفيضان ووقته، وكانوا هم المرجعية بالنسبة للناس والمزارعين والحكام.
وكان هناك مقاييس لقياس ارتفاع وانخفاض مستوى النهر، وهو عبارة عن بئر تتوازن فيه درجة المياه ارتفاعًا وانخفاضًا على مقدار مياه النهر، وقد نقشوا في جوانب البئر إشارات تدلُّ على درجات الفيضان في كل عام
وقد عثر علماء الآثار على مدينة بيلاق وزاره جومار مؤرخ الحملة الفرنسية قبل ترميمه، وقال في وصفه: "يتألف هذا المقياس من سطح مربع، ومنه ينزل بسلم إلى 85 درجة، وينقسم سطحه إلى ثلاثة أجزاء، وفيه باب يفتح إلى النيل لا يمكن النظر إليه إلا وقت انخفاض المياه، وجدرانه المتطرفة مبنية بقطع أفقية من الحجر الجرانيت".
وفي المتحف البريطاني يوجد نص هيروغليفي محفوظ يثبت أن الملك سنوسرت الثالث صُنع في السنة الثامنة من حكمه بعد إصلاحات في مقياس بيلاق، ويقول النص: "في السنة الثامنة من الشهر الثالث من فصل الفيضان في عهد ملك الوجهين البحري والقبلي سنوسرت الثالث المحبوب من ساتيت "معبودة مدينة بيلاق" الخالد الذكر، قد أمر وزيره أمني بعمل باب من مباني مقياس بيلاق".
السدود
وكما اهتم المصريون القدماء ببناء المقاييس أيضًا بنوا السدود، ويعد أشهرها وأقدمها على الإطلاق سد قوشيه، ويعد من أقدم السدود في العالم أجمع، وبناه الملك نعرمر موحد القطرين، حيث أسسه تم تأسيسه قبل 2900 عامًا قبل الميلاد، وقد بناه نعرمر لحماية المباني في ممفيس من الفيضانات، وكان ارتفاعه يبلغ 15 مترًا.
مقياس النيل في العصر الإسلامي
في العصر الإسلامي شهد النيل اهتمامًا كبيرًا للغاية تمثل أكثر ما يكون في بناء المقاييس والقناطر والسدود للحفاظ على مياهه وترشيد استهلاكها والاستفادة منها في شكلها الأمثل.
وكان أول من أنشأ مقياسًا للنيل في العصر الإسلامي هو عمرو بن العاص والي مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد أنشأ مقاييس أسوان، ودندرة.
كما أنشأ الخليفة معاوية بن أبي سفيان مقياس أنصنا، ثم شيد عبد العزيز بن مروان مقياسًا في حلوان عام 80 هـ 699 م. كما بنى أسامة بن زيد التنوخي عامل الخراج على مصر مقياسًا في خلافة الوليد بن عبد الملك عام 92هـ 711م، ومقياسًا آخر عام 97هـ 715م.
ثم بنى الحليفة المتوكل على الله عام 247هـ 861م، مقياسًا في جزيرة منيل الروضة، وعرف بـ "المقياس الهاشمي"، أو "مقياس الروضة"، وقد بناه المهندس العراقي محمد بن كثير الفرغاني. وقيل إن مهندسه أحمد بن محمد الحاسب. لكن الغموض يكتنف شخصية مهندس المقياس.
وتمت العناية بالمقياس على مر العصور، فقد رممه أحمد بن طولون، وكذلك السلطان الظاهر بيبرس البندقداري وأضاف له قبة؛ كما اعتنى به السلطان الأشرف قايتباي، وكذلك اعتنى به السلطان العثماني سليم الأول.
وظلت العناية مستمرة بهذا المقياس من تنظيف وصيانة وترميم حتى انتفت الحاجة إليه بتشييد السد العالي، حيث أصبحت بحيرة ناصر هي التي تقيس مستوى منسوب مياه النيل.
وكان المقياس عبارة عن بئر عميقة في وسطها عمود من الرخام مقسم إلى أذرع وقراريط، تدخل مياه النيل إلى هذا البئر عن طريق مسارب «أنفاق»، فإذا بلغ ارتفاع مياه النهر في بئر المقياس 16 ذراعًا فيعد هذا بشيرًا بوفاء النيل وتعم الاحتفالات ربوع مصر.
قناطر الباشا
من أبرز مظاهر العناية بالنيل في العصور المصرية المتعاقبة هي قناطر محمد علي باشا الشهيرة، وهي تمثل مشروعًا متكاملًا جعل زراعة أراضي الوجه البحري تستمر طوال العام حيث كانت الزراعة قبل القناطر في الوجه البحري تقتصر على المحاصيل الشتوية، والمحاصيل الصيفية لا تُزرع إلا على شواطئ النيل أو الترع القليلة المتفرعة منه.
وبدأ محمد علي في تغيير هذا النظام بشكل تدريجي، فشق الترع وطهرها وأقام الجسور على شاطئ النيل ليضمن توفير مياه الري في معظم أيام السنة، وصارت الترع تروي الأراضي في غير أوقات الفيضان وخصيصًا بعد إقامة القناطر عليها.
وتوج محمد علي باشا أعماله في مجال الري بإنشاء القناطر الخيرية، وهي عماد نظام الري الصيفي في الوجه البحري، فاعتزم ضبط مياه النيل للانتفاع بها زمن التحاريق ولإحياء الزراعة الصيفية في الدلتا، وذلك بإنشاء قناطر كبرى في نقطة انفراج فرعي النيل وهي المنطقة المعروفة ببطن البقرة والمشهورة حاليًا بالقناطر الخيرية.
وعهد محمد علي بدراسة هذا المشروع الى جماعة من كبار المهندسين، منهم المسيو لينان دي بلفون لينان باشا كبير مهندسيه، فوضع له تصميما وشرع في العمل وفقًا لهذا التصميم سنة 1834م، ثم استرشد بمهندس فرنسي آخر وهو المسيو موجيل بك وعهد إليه وضع تصميم إقامة القناطر الخيرية.
وعاون مسيو موجيل في هذا المشروع مصطفى بهجت باشا ومظهر باشا، والمشروع عبارة عن قنطرتين كبيرتين على فرعي النيل يوصل بينهما رصيف ضخم.
كما تم شق ترع كبرى تتفرع عن النيل فيما وراء القناطر لتغذية الدلتا، وهي الرياحات الثلاثة المعروفة، رياح المنوفية ورياح البحيرة ورياح الشرقية الذي عُرف بالرياح التوفيقي، لأنه أنشئ في عهد الخديوي توفيق.
ووضع محمد علي حجر أساس القناطر الخيرية في احتفال فخم يوم الجمعة 23 ربيع الثاني سنة 1263 (سنة 1847)، وتوقف العمل بعد وفاته وأثناء فترة حكم عباس الأول بحجة أن حالة الخزانة لا تسمح ببذل النفقات الطائلة التي يتكلفها إنفاذ المشروع، ثم بدأ يتسارع العمل على فترات حتى تم بناء القناطر وأنشئ رياح المنوفية في عهد سعيد باشا.
ويقول المسيو شيلو عن القناطر الخيرية، إن مشروع القناطر كان يُعد في ذلك العهد أنه أكبر أعمال الري في العالم قاطبة، لأن فن بناء القناطر على الأنهار لم يكن بلغ من التقدم ما بلغه اليوم، فإقامة القناطر الخيرية بوضعها وضخامتها كان يُعد إقداما يُداخله شئ من المجازفة".