التكايا والزوايا من المؤسسات المهمة التى أنتجتها الحضارة الإسلامية؛ لتقدم نموذجًا فريدًا فى خدمة المجتمع والرسالة الدينية والقيم الإنسانية، وكانت تحديدًا من ثمار التفاعل الصوفى مع الواقع وتيسير أفضل السبل لتحقيق الغاية من سلوك طريق التصوف، وهناك عددٌ من المفاهيم لا بد من بيانها قبل الحديث عن أثر هذه المؤسسات الصوفية فى الحضارة الإسلامية.
الخَانِقَاوات أو التَّكَايا
هى منشآت كانت تخصَّصُ لإيواء المتصوفة والمنقطعين للعبادة، وتطلق على الحرم الكبير الذى تُشاد فوقه قبة عالية وتقام فيه الصلوات الخمس والأذكار، ويعين له المؤذنون والقرَّاء والمدرسون والمقدَّمون والمنشدون، وكانت تُسمَّى فى الدولة العثمانية بالتَّكايا، ومفردها تَكِيَّة، وانتشرت هذه المؤسسات فى الأقطار الإسلامية المختلفة، ولا سيما إيران ومصر والأقطار العثمانية.
أما الزَّاويَة: فهى مسجد لإقامة شعائر الدين الحنيف، وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعهد لطلب العلم فى الشريعة والحقيقة.
الرُّبط
وهناك الرُّبط، جمع رِبَاط: التى كانت تقام فى المناطق المعرَّضة للهجوم العسكري، وكان من يقيمون بها يسمون المرابطين، وكانت للتهجُّد والتأمل والاستغراق بشهود عظمة الله تعالى، وفى الوقت ذاته معسكر يحمى بلاد المسلمين من هجوم الأعداء؛ ولذا انتشرت بأعدادٍ أكبر على السواحل الإسلامية مثل البحر الأبيض وغيره، وهذا هو سبب انتشار أضرحةٍ لأولياء صالحين فى المدن السَّاحليَّة، حيث كانوا يقيمون مع مريديهم فى هذه الربط لعبادة الله والتعليم والتأمل والجهاد.
وكانت التَّكَايا والزَّوايا والرُّبط إحدى الركائز الهامَّة للتربية الدينية والاجتماعية، فقد كانت تعتمد أنظمة دقيقة فى إدارتها وتنظيم شؤونها، وتُعقد فيها حلقات الذكر، ومجالس العلم، وكان بعضها يُدَرِّسُ فقهَ أحدِ المذاهب والبعضُ الآخرُ يُدَرِّسُ أكثر من مذهب، وكانت نموذجًا تطبيقيًّا للتضحية والفداء من أجل خدمة العقيدة والدفاع عن المجتمع، وكان لاستشهاد الكثير من مشايخ وعلماء التصوف الموجودين فى هذه المؤسسات أثناء مقاومة الغزو المغولى أو رد هجمات الصليبيين، أثر بليغ فى ترسيخ المعانى السامية المتعلقة بحماية الأمة والمجتمع وبذل الغالى والنفيس من أجل حماية الأوطان والعقائد.
من نماذج تنظيم وإدارة هذه المؤسسات ما يذكره ابن بطوطة فى "رحلاته" حيث قال: [ولكل زاوية شيخ وحارس وترتيب أمورهم عجيب، ومن عوائدهم فى الطعام أنه يأتى خُدَيْمُ الزاوية إلى الفقراء صباحًا فيعين له كل واحد ما يشتهيه من الطعام، فإذا اجتمعوا للأكل جعلوا لكل إنسان خبزه ومرقة فى إناء على حدة، لا يشاركه فيه أحد، وطعامهم مرَّتان فى اليوم، ولهم كسوةُ الشتاء وكسوةُ الصيف، ومرتَّبٌ شهريٌّ من ثلاثين درهمًا للواحد فى الشهر إلى عشرين، ولهم الحلاوة من السكر كل ليلة جمعة، والصابون لغسل أثوابهم، والأجرة لدخول الحمام، والزيت للاستصباح وهم أعزاب، وللمتزوجين زوايا على حدة، ومن المشترط عليهم حضور الصلوات الخمس، والمبيت بالزاوية، واجتماعهم بقبة داخل الزاوية، ومن عوائدهم أن يجلس كل واحد منهم على سجادة مختصة به، وإذا صلوا الصبح قرأوا سورة الفتح وسورة الملك وسورة عم، ثم يؤتى بنسخ من القرآن العظيم مجزأة، فيأخذ كل فقير جزءًا ويختمون القرآن ويذكرون، ثم يقرأ القرَّاء على عادة أهل المشرق، ومثل ذلك يفعلون بعد صلاة العصر، ومن عوائدهم مع القادم أنه يأتى باب الزاوية فيقف به مشدود الوسط وعلى كاهله سجادة وبيمناه العكاز وبيسراه الإبريق؛ فيعلم البواب خُدَيْمُ الزاوية بمكانه فيخرج إليه ويسأله: من أى البلاد أتى وبأى الزوايا نزل فى طريقه ومَنْ شيخُه؟ فإذا عَرَفَ صحةَ قوله أدخله الزاوية وفرش له سجادته فى موضع يليق به، وأراه موضع الطهارة فيجدد الوضوء ويأتى إلى سجادته فيحل وسطه ويصلى ركعتين ويصافح الشيخَ ومن حضر ويقعد معهم، ومن عوائدهم أنهم إذا كان يوم الجمعة أخذ الخادم جميع سجاجيدهم فيذهب بها إلى المسجد ويفرشها لهم هنالك ويخرجون مجتمعين ومعهم شيخهم فيأتون المسجد ويصلى كل واحد على سجادته فإذا فرغوا من الصلاة قرؤوا القرآن على عادتهم، ثم ينصرفون مجتمعين إلى الزاوية ومعهم شيخهم].
نموذج للتربية على العبادة والانضباط
كانت هذه الزوايا والخانقاوات نموذجًا عمليًّا للتربية على العبادة والنظام والانضباط والنظافة واحترام الراق وخدمة الناس والتعاون على البر والتقوى.
وكان لهذه التكايا والزوايا والخانقاوت أيضًا دور بالغ الأثر فى نشر الإسلام فى أواسط آسيا وأفريقيا، حيث كانت تفتح أبوابها للراغبين فى التعرف على الإسلام والتعلم والمحتاجين والمرضى، وتستقبل المسافرين والقوافل؛ فحازت ثقة كثير من أبناء هذه المجتمعات التى انتشر الإسلام فى كثير من بقاعها دون حرب أو قتال. وقد اهتم السلاطين العثمانيون بالتكايا والزوايا بشكل كبير، ووفق تقديرات إحصائية لتكايا إسطنبول سنة ١٦٤٠ م فإنها بلغت حوالى ٥٥٧ تكية، و٢٢٠٠٠ زاوية وحجرة للشيوخ أو الدراويش الذين كانوا يعيشون فيها.
واهتم صلاح الدين الايوبى بالتصوف وأقام الخانقاوات والربط والزوايا من أجل رفع الشعور الدينى فى الأمة وزيادة استعدادتها لمقاومة الأخطار التى تهدِّدُها، كما حُبِسَتْ عليها الأوقاف التى تُنفق على هذه المؤسسات وتوفر لها ما تحتاجه من نفقة ومؤونة، فانتشرت بكثرة فى دمشق وفلسطين وسائر مدن الشام والعراق. وكان أمراء المماليك أيضًا يهتمون ويتنافسون فيما بينهم فى خدمة الصوفية وإنشاء الخانقاوات أو التكايا لهم، كما كانوا يهتمون بعمارتها، وتزيينها وزخرفتها، وفق تصور فنى بليغ، ومن أمثلة ذلك، خانقاه بيبرس الجاشنكير التى بدأ فى إنشائها الأمير بيبرس الجاشنكير بالقاهرة فى سنة ٧٠٦هـ/ ١٣٠٦م قبل أن يتولى السلطنة، وأنشأ بجانبها رباطًا كبيرًا، وقرر بها ٤٠٠ صوفي، وبالرباط ١٠٠ جندى وآخرين.
وفى وصف هذه الخانقاه يقول الدكتور حسن الباشا: [تتألف الخانقاه من صحن مستطيل التخطيط فى جانبين متقابلين منه إيوانان كبيران معقودان أحدهما إيوان القبلة، وفى الجانبين الآخرين خلاوٍ للصوفية، بعضها فوق بعض، زخرفت أعتابها بمُقَرْنَصَات وعقود ذات أشكال متنوعة، ويتميز إيوان القبلة وهو أكبر الإيوانات بأنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام، ويتوسطه محراب حجرى يتميز بالبساطة والخلو من الزخارف مما يتناسب مع طبيعة الخانقاه.
وكانت الخانقاه فى عصر المماليك تجمع أحيانًا بين المدرسة والتكية والضريح، كما هى الحال بمدرسة أمير كبير قرقماس بالقاهرة، وخانقاه فرج بن برقوق، وخانقاه الأشرف برسباي].