"بابا فرنسيس العزيز، نحن أبناء فلسطين. يعاني أهلنا من الاحتلال منذ 66 عاما. لقد تفتحت أعيننا تحت هذا الاحتلال وقد شهدنا النكبة في عيون أجدادنا، عندما رحلوا عن هذا العالم. نريد أن نقول للعالم: كفى ألما وذلا!" هكذا تحدث أحد أطفال مخيمات اللاجئين موجهاً تلك الكلمات الى قداسة البابا فرنسيس يوم زيارته لبيت لحم في 25 مايو 2014. جاء رد البابا فرنسيس لهذا الطفل ولجميع اطفال فلسطين: "لا تدعوا الماضي يقرّر حياتكم أبدا. انظروا دوما إلى الأمام. اعملوا وناضلوا لتحصلوا على الأشياء التي تريدونها. لكن اعلموا شيئا أنه لا يمكن التغلب على العنف بواسطة العنف! يمكن التغلب على العنف بواسطة السلام! من خلال السلام، من خلال العمل، من خلال كرامة متابعة حياة الأمة!"
خلال 59 عاماً من العام 1964 يوم زيارة قداسة البابا بولس السادس إلى الأراضي المحتلة كأول حبر أعظم يزور فلسطين وحتى البابا فرنسيس حرص جميع بابوات الفاتيكان، باستثناء يوحنا بولس الأول، مروراً بيوحنا بولس الثاني وبنيدكتوس السادس عشر على زيارة الأراضي المقدسة بما في الاردن واسرائيل الى جانب فلسطين. لم تكن زيارات الحج التي قام بها الباباوات الأربعة فرص للتبرك من زيارة الأرض التي شهدت حياة المسيح، لا بل كانت بالاحرى فرص للتضامن مع شعب فلسطين الجريح والمهجر والمضطهد منذ نكبة العام 1948، تضامن مع ذلك المسيح الطفل المضهد ببيت لحم، والمنبوذ باليهودية، والمصلوب بالقدس.
كانت زيارات يوحنا بولس الثاني في العام 2000 وبنيدكتوس السادس عشر في العام 2009 وفرنسيس في العام 2014 فرصة لتذكير اليهود في كل انحاء العالم ودولة اسرائيل بشكل خاص بأن ما تعرض له اليهود على يد النازي الألماني إبان الحرب العالمية الثانية لا يجب أن يتكرر بأي حال من الأحوال لأي شعب في العالم وبصفة خاصة للشعب الفلسطيني، داعين السلطات الرسمية ورجال الدين اليهود الى اتاحة الفرصة لسماع صوت آبائهم وأجدادهم الذين عانوا الم الاضطهاد الا يصيروا الاحفاد سبباً في اضطهاد الآخرين...غير أنه ربما البابا المتحدث الايطالية لم يكن مفهوماً للزعيم اليهودي المتحدث العبرية في المناسبات الثلاثة.
عندما حطت قدماه مطار بن جوريون بتل أبيب نهار يوم 25 مايو 2014 جدد البابا الارجنتيني نداء سابقه بنيدكتوس السادس عشر إلى رموز الحكم في إسرائيل وكان بينهم يومها صاحب مجازر اليوم بنيامين نتانياهو مذكراً إياهم بالجراح العديدة التي يصعب تضميدها التي يتسبب فيها الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين محذرا يومها منذ تسعة أعوام بما يحدث اليوم من أن غموض الموقف وغياب الحل وانعدام الأمن ونكران حقوق الفلسطينيين وعزلهم محاصرين في قطاعاتهم الشرقية بغزة والغربية بالضفة لا يحقق العدالة والأمن ما يقود إلى غياب السلام. اللافت أن البابا فرنسيس ربط في غالبية كلمات زيارته أمام السلطات الرسمية بالأردن وإسرائيل وفلسطين بين العدالة والأمن كسبيل واحد للوصول إلى السلام.
في ذلك اليوم دعا البابا فرنسيس الإسرائيليين الى الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني المتمثل في حل الدولتين مخاطباً قيادات الحكم الجالسين أمامه في مطار بن جوريون قائلا: "أجدّد النداء الذي أطلقه بندكتس السادس عشر من هذا المكان: ليتمّ الاعتراف عالميا بأن لدولة إسرائيل الحق في الوجود والتنعم بالسلام والأمن داخل حدود معترف بها دوليا. وليتمّ الاعتراف كذلك بأن للشعب الفلسطيني الحق بوطن سيّد، والعيش بكرامة والتنقّل بحرية. ليصبح "حل الدولتين" واقعًا ولا يبقى حلما." استطرد البابا فرنسيس منبهاً قيادات اسرائيل ومحذراً اياهم من تكرار مأساة النازي التي تعرض لها اليهود، رافعاً صوته قائلاً: " ستكون لحظةً مؤثرة جدا خلال إقامتي في بلادكم، زيارةُ نصب ياد فاشيم، تذكارا لستة ملايين يهودي ضحايا المحرقة، مأساة تظل كرمز للدرجة التي يمكن لشراسة الإنسان أن تصل إليها، حين تحرّكها إيديولوجيات خاطئة فتنسى الكرامة الجوهرية لكل شخص والذي يستحق الاحترام المطلق، أيًا كان الشعب الذي ينتمي إليه، والديانة التي يعلنها." ...عذراً قداسة البابا، لقد تنكر لكلماتكم قادة الحرب الإسرائيليين وبوادر تكرار جريمة الهولوكوست يعود للأفق بعد تسعة عقود من الهولوكوست النازي.
لم يكن البابا فرنسيس الأول بين أساقفة روما الذين ينبهون قادة اسرائيل من مغبة تكرار مأسي ماضيهم في حاضرهم ومستقبلهم، فقد دعا البابا بنيدكتوس وايضاً بمطار بن جوريون يوم 11 مايو 2011 ، دعاهم الى مرادفة مفهوم الامن بالثقة القائمة على العدالة والاعتراف بحقوق الآخرين، متسائلا ومستنكراً الغاية السياسية او الانسانية من الحرب والعنف، يومها أكد البابا راتزينجر قائلاً: "أسمع صرخة أولئك الذين يعيشون في هذه الأرض من أجل العدالة والسلام واحترام كرامتهم والأمن الدائم وحياة يومية خالية من الخوف من التهديدات الخارجية والعنف الذي لا معنى له."
متنبهاً لأولئك المتذرعين والمتلاعبين بالدوافع الدينية لتحقيق اغرضاً سياسية، نبه العلامة اللاهوتي جوزيف راتزينجر قداسة البابا بنيدكتوس السادس عشر القادة الدينيين يوم زيارته للأردن في 15 مايو 2009 من أن الدين يمكن أن يصير الدافع الكامن للتوترات والانقسامات معرباً عن قلقه من استخدام الدين كباعث لمختلف أشكال العنف، يومها أكد البابا الألماني قائلا: "لا يسعنا إلا أن نشعر بالقلق من أن البعض اليوم، بإصرار متزايد، يؤكدون أن الدين يفشل في ادعاءه بأنه، بطبيعته، باني الوحدة والوئام، وتعبير عن الشركة بين الأشخاص ومع الله. بل إن البعض يؤكد أن الدين هو بالضرورة سبب للانقسام في عالمنا؛ ولذلك فإنهم يجادلون بأنه كلما قل الاهتمام بالدين في المجال العام كلما كان ذلك أفضل. ومن المؤكد أنه، للأسف، لا يمكن إنكار تناقض التوترات والانقسامات بين أتباع التقاليد الدينية المختلفة. ولكن، أليس كذلك أن التلاعب الأيديولوجي بالدين، أحيانًا لتحقيق أهداف سياسية، هو المحفز الحقيقي للتوتر والانقسام، وأحيانًا للعنف في المجتمع؟"
متحدثاً بأسم الكنيسة الكاثوليكية يوم 11 مايو 2009، ومن أمام النصب التذكاري ياد فاشيم الذي لضحايا الهولوكوست، تحدث البابا بنيدكتوس مؤكداً على قرب وتضامن الكنيسة الكاثوليكية من ضحايا هولوكست الماضي وهولوكوست الحاضر المتمثلين في شعب فلسطين وغيرهم، قائلاً :" إن الكنيسة الكاثوليكية، الملتزمة بتعاليم يسوع والمصممة على تقليد محبته لجميع الناس، تشعر بالتعاطف العميق مع الضحايا الذين نتذكرهم هنا. وبالمثل، فهي تقترب من جميع أولئك الذين يتعرضون اليوم للاضطهاد بسبب العرق أو اللون أو حالة الحياة أو الدين – معاناتهم هي معاناتها، ومعاناتها هي أملهم في العدالة. وبصفتي أسقف روما وخليفة الرسول بطرس، أؤكد من جديد – مثل أسلافي – أن الكنيسة ملتزمة بالصلاة والعمل بلا كلل لضمان أن الكراهية لن تسود أبدًا في قلوب البشر مرة أخرى."
مقتبساً كلمات القديس يوحنا بولس الثاني في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسلام في العام 2000 " لا سلام بدون عدالة، ولا عدالة بدون غفران"، أكد البابا بنيدكتوس في زيارته للرئيس محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية يوم 13 مايو 2009 على دعم الفاتيكان لحق الشعب الفلسطيني في وطنهم وارض اجدادهم في أمان وسلام مع كل جيرانهم وفي ضوء الحدود المعترف بها دولياً، داعياً جموع الفلسطينيين إلى الابقاء على الأمل حياً في تحقيق تطلعاتهم الشرعية والمشروعة.
كانت كلمات بنيدكتوس السادس عشر أمام الرئيس محمود عباس في 2009 هي تأكيد لكلمات يوحنا بولس الثاني أمام الرئيس عرفات يوم زار الحبر الأعظم البولندي فلسطين في 22 مارس 2000، مؤكداً اعتراف الفاتيكان بحق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطن أجداده بسلام وامان استناداً الى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. بعد كلمته هذ بيوم واحد وبالتحديد يوم 23 مارس 2000 ومن أمام ذات النصب ياد فاشيم، حذر البابا يوحنا بولس الثاني قادة اسرائيل من تكرار مأساة الابادة التي تعرضوا لها على يد النازي من أن يكرروها بحق الشعب الفلسطيني قائلاً: " نود أن نتذكر. ولكننا نود أن نتذكر لغرض ما، ألا وهو ضمان عدم انتشار الشر مرة أخرى، كما حدث للملايين من ضحايا النازية الأبرياء. كيف يمكن للإنسان أن يكون لديه مثل هذا الاحتقار المطلق للإنسان؟ لأنه وصل إلى حد الازدراء بالله. فقط الأيديولوجية الملحدة هي التي يمكنها التخطيط وتنفيذ إبادة شعب بأكمله.
من اللازم ونحن نشهد في هذه الايام تجدد اسالة دم المسيح على يد رؤساء اسرائيل كما فعل رؤساء وقادة اليهود منذ ألفي عام منادين بصلبه أن نطرح بيان ما جاء في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني في تصريح علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية: "ولئن ذوو السلطان والاتباع من اليهود عملوا على قتل المسيح، إلا أن ما اقترف أبان الآلام والصلب لا يمكن أن ننسبه في غير تمييز إلى جموع اليهود الذين عاشوا آنذاك ولا إلى اليهود المعاصرين لنا." أكد اباء المجمع على ضرورة تمييز ما جاء في انجيلي متى 25:27 ويوحنا 19 :6 على لسان زعماء رؤساء اليهود "اصلبه اصلبه...دمه علينا وعلى اولادنا" بأن رؤساء اليهود حينها لم يكونوا وأولادهم من بعدهم لم يكونوا ممثلين لجموع اليهود آنذاك ولا اليهود المعاصرين. غير أنه يبدو انهم اباء قادة الحرب والدماء الإسرائيليين في كل العصور، فهم لا يزالوا يسفكون الدماء كأجدادهم.
تستدعي صرخة رؤساء اليهود بصلب المسيح استدعاء نداء الله لآدم في سفر التكوين عقب سقوطه، هذا النداء كان محور تأمل البابا فرنسيس يوم 26 مايو 2014 أمام قادة اليهود وقادة الحرب الإسرائيليين مذكراً إياهم بحقوق اخوتهم الفلسطينيين قائلا: " إن تلك الصرخة "أينَ أنت؟"، وهنا، أمام مأساة المحرقة الهائلة، يتردّد صداها كصوت يضيع في هوّة لا قاع لها... مَن أنت، يا إنسان؟ لم أعد أعرفك. من أنتَ يا إنسان؟ مَن أصبحت؟ أية فظاعة تمكّنت من فعلها؟ ما الذي جعلك تسقط هكذا إلى أسفل؟ ليس تراب الأرض الذي أُخذت منه. فتراب الأرض شيء حسن، من صُنع يديّ. ليست نسمة الحياة التي نفختُها في أنفك. فتلك النفخة صادرة عنّي، وهي شيء حسن جدا (سفر التكوين 2، 7) لا، لا يمكن أن تكون هذه الهوة من صُنعك فقط، صُنع يديك، وقلبك... مَن أفسدَك؟ من شوَّهك؟ مَن نقل إليك إدعاء إقامة نفسك سيدا على الخير والشر؟ مَن أقنعَك بأنك الله؟ فإنك لم تعذّب وتقتل أخوتك فقط، إنما قدّمتهم ذبيحة لنفسك، لأنك رفعت نفسك إلى مستوى الله. نعود اليوم لنصغي هنا إلى صوت الله "آدم، أينَ أنت؟" ويرتفع من الأرض أنين ضعيف "ارحمنا، يا رب!"