الموضوعية تعنى الحكم المجرد من الأهواء الشخصية (عكس الذاتية)، ولكى يكون الحُكم موضوعيًا، لابد من وجود معايير مرجعية (benchmark) يمكن القياس عليها، وإلا كان الحكم شخصيًا يختلف باختلاف أراء وأهواء من يتخذه.
القاضى فى المحكمه، لكى يكون حكمه موضوعيًا، لابد أن يكون مبنيًا على قوانين ومعايير منضبطة، تم الاتفاق عليها من المجتمع، أى أن الموضوعيه تحتاجإلى المعيارية وبدونها لايمكن أن يكون هناك عدالة فى الحكم على الأشياء.
أستاذنا الموسوعى الدكتور آسر قنديل، طبيب الأطفال بالولايات المتحدة الأمريكية، كتب كثيرًا عن غياب الموضوعية وغياب المعيارية فى الكثير من القضايا التى نناقشها يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي.
آفة بعض المجتمعات التى تقل فيها نسبة التعليم وتزداد فيها نسبة الأمية، هى غياب الشفافية، وغياب المعايير الاسترشادية، ومن ثم غياب الموضوعية. ولكى لايكون الكلام فلسفيًا، أعطى أمثلة من واقع خبراتى سواء فى مصر أو فى انجلترا.
أولا: تقييم أداء الطلاب فى امتحانات كليات الطب:
حتى سنة ١٩٩٧، كانت الاختبارات التى تجريها كليات الطب المصرية، لاتخرج عن ثلاثة أنواع من الاختبارات وهى التحريرية والشفهية والعملية. وبصفة عامة، كانت الاختبارات الثلاثة غير موضوعية (إلا قليلًا) لعدم وجود معايير استرشادية للتصحيح. كانت الأسئلة التحريرية مقالية، وعند التصحيح، تختلف تقييمات الأساتذة، وكل أستاذ يعطى درجة حسب تقييمه الشخصي. أمًا المشكلة الأكبر فكانت فى الامتحانات الشفهية والعملية، والتى تختلف حسب اختلاف الأستاذ، وحسب الحالة المرضية، وعدم وجود قواعد مرجعية للقياس عليها، ولذا كان التقييم شخصيًا إلى حد كبير، وكان الشعور العام بين الطلاب أن هناك محاباة لبعض الطلاب.
وفى جامعة مانشستر، كان لى فرصة المشاركة فى امتحانات الطلاب، ولم أجد أى من الأنماط التى كنا نستخدمها فى مصر. فكانت الأسئلة التحريرية موضوعية لايختلف عليها إثنان، فى شكل اختيار من متعدد أو أسئلة مقالية قصيرة ومحددة، ولها مساحة ووقت محددين للإجابة.
أما الأسئلة الشفهية والعملية، فقد تم تحويلها إلى محطات موضوعية متعددة، المعروفة اختصارًا باسم (OSCE) تقيس المعارف والمهارات والسلوك المهني، حسب قواعد محددة، ونموذج استرشادى ملزم، يتساوى فيها جميع الطلاب. منذ العام ٢٠١٠، وبعد إنشاء الهيئة القومية للجودة والاعتماد، تم تبنى القواعد المعيارية القياسية، وتم التحول التدريجى من الطرق الشخصية فى تقويم الطلاب الى طرق موضوعية.
ثانيا: تقييم أداء الأطباء عند حدوث أخطاء طبية
فى انجلترا، كانت الأخطاء الطبية والشكاوى ضد الأطباء جزء من الممارسة الطبية، وبمعدلات أكثر مما هى عليه فى مصر. ولكن كان هناك معايير استرشادية وإجراءات موضوعية وقانونية تحمى حقوق كل من الأطباء والمرضي.
عند حدوث أى خطأ طبي، كان المريض (أو محاميه) يتقدم بشكوى إلى مكتب الشكاوى الموجود بكل مستشفى. كل شكوى يتم التحقيق فيها بواسطة محامى المستشفى، والذى يحولها الى المدير الطبى. يتم مخاطبة المشكو فى حقه (بخطاب شخصى وسرى) للتقدم بتقرير مفصل عن ملابسات الحالة، وكذلك يتم استجواب كل من شارك فى الخدمة الطبية من الأطباء، وهيئة التمريض والهيئات المعاونة، ومراجعة السجلات الطبية والفحوصات. ثم يتم عرض الملابسات على استشارى من التخصص، لمقارنة الخدمة المقدمة، بما هو منصوص عليه فى المعايير الاسترشادية (Guidelines) التى تتبناها الكليات الملكية والمنظمات العلمية العالمية. بعد ذلك يتم الرد على الشاكي، والاعتذار له وعرض تعويض مناسب (من التأمين الصحي) إذا كان هناك ضرر جسيم قد أصابه. إذا قَبِلَ الشاكى عرض المستشفى ينتهى الموضوع، أما إذا رفض فيتم رفع الشكوى إلى المجلس الطبى العام (GMC) لعرض الموضوع على لجنة محايدة من استشاريين فى التخصص، لدراسة الشكوى، ومطابقة ماقام به الفريق الطبى بالمعايير الاسترشادية، وإذا اتضح وجود خطأ فى الخدمة الطبية (Substandard care) وجب التعويض. أما إذا رفض الشاكى قرار المجلس الطبى العام، فليس أمامه إلا التوجه إلى القضاء، برفع قضية تعويض أمام المحاكم الإنجليزية، والتى تقوم باستدعاء لجنة مستقلة من الخبراء فى التخصص لدراسة الموضوع، ومرة أخيرة تقرر ما إذا كان الشاكى يستحق التعويض أم تسقط القضية.
مما سبق يتضح أن البوليس والنيابة، ليس لهما أى تدخل فى الأخطاء المهنية الطبية، وأن الحُكم على مدى مطابقة أداء الفريق الطبى للمقاييس والمعايير الاسترشادية، يتم بواسطة خبراء من نفس التخصص أمام جهات علمية. أما عقاب الأطباء بسبب الخطأ الطبي، فيتم حسب القانون المدني، والذى يحكم بالتعويض (الذى تموله هيئة التأمين الصحي)، ولذا لايوجد حبس للأطباء فى أخطاء المهنة.
حاليًا، هناك محاولات لعمل معايير استرشادية مصرية لكل تخصص طبي، وهناك أيضا مسودة لقانون المسؤولية الطبية، مازال عالقًا فى البرلمان. ندعو الله سبحانه وتعالى أن يصدر قانون المسؤولية الطبية، وأن تسود الموضوعية كل أمورنا الحياتية.
*رئيس جامعة حورس