عندما قلت للشاعر المبدع نزار قبانى أعرف أنك ضد الوظيفة أليس هذا صحيحا؟.. فوجئت به يضحك من قلبه وقد امتلأت ملامح وجهة بهجة وسرورا وهو يقول: نعم.. أنا ضد الوظيفة أصلا لأنى فى الأساس ضد العبودية فطبيعتى أننى لا أتلقى الأوامر من أحد وهى طبيعة الشعر لأنه لو تلقى الأوامر لكان عبدا.. الشعر جذوة الحرية..هل تعلم أننى قبلت الدبلوماسية لغايات شعرية وأعطتنى الدبلوماسية القدرة على الرحيل؟.. الرحيل عنصر أساسى من عناصر الشعر هو الثقافة الحقيقية وليس الكتاب.. كل مدينه تقرأها تعادل عشرات الآلاف من الكتب..أنا بدأت عملى الدبلوماسى فى مصر عام ١٩٤٥.
ملحوظة: عندما حكى الكاتب الساخر محمود السعدنى عن ذكرياته عام ١٩٤٥ وتكلم عن أشهر قهوة فى مصر وهى قهوة عبد الله بالجيزه قال أن هذه القهوة كانت من أشهر المقاهى وكان زبائنها فى الصباح من تجار القطن القادمين من الْأَرْيَافِ وأيضا السماسرة وفى المساء كانت ملتقى زبدة مصر من الْكِتَابِ والشعراء وشخصيات من عظماء مصر على حد تعبيره وقال انه كان يذهب هو وصديقه الفنان أحمد طوغان رسام الكاريكاتير صحبه الشاعر زكريا الحجاوى أحد رواد الفن الشعبي المصري إلى هذه القهوة وفيها يلتقى بالكثير من الأدباء والمفكرين مثل الكاتب الكبير أحمد رشدى صالح رائد الفن الشعبي والناقد الأدبى الدكتور عبد القادر القط والناقد أنور المعداوى ومن الشباب آنذاك الشاعر صلاح عبد الصبور وقال انه فوجئ بتردد شاب سوري صغير وعندما لاحظ تردده الدائم سأله عن اسمه فقال له نزار قباني الذى أصبح الآن أشهر شاعر فى الوطن العربى مما يعطيك فكرة عن حرص هذا الشاعر على الحضور فى اى مكان حتي ولو كان في قهوة للاستفادة من فكر وأدب المبدعيين ويستمع الى ما يدور من مناقشات أدببة وفكرية تزيدة ثقافة ومعرفة ..وهذا ما يؤكد لك إلى اى مدى كان هذا الشاعر حريصا على ان يحقق التميز والإبداع في شعره.
أكمل الشاعر المتميز نزار قبانى حديثه بأنه انتقل من مصر إلى تركيا ثم لندن. وبعدها ذهب الى الصين ثم أسبانيا.. وهى آخر عمل له حيث قدم استقالته عام ١٩٦٦..وأكد الشاعر نزار قبانى على انه خلال ترحاله تعرف على شعوب مختلفة ورأي عادات وأخلاق بشر.. وتنقل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.. فقد عرف الحضارة الأسيوية وعرف الحضارة الغربية وعرف تفكير عقليات مُتَفَاوِتة أضيفت إلى مخزونه الداخلى.
صمت بعدها لحظة ثم أضاف لقد أسست دارا للنشر فى بيروت بعد كل هذا وهى منشورات قبانى.. ولا تزال قائمة وكانت هذه الدار حلما لى.. وهى لا تنشر إلا شعرى فقط.
قلت له ولماذا لا تنشر الا شعرك فقط؟
بثقه الشاعر المرهف الحس قال: لأننى لا أريد أن أكون تاجر كتب.. كنت أريد فقط أن أطبع دواوينى بذوقى الخاص.. أختار الورق الذى يلائمه.. الرسوم.. الحروف.. الغلاف.. لذة خاصة لى.
استكملت حوارى معه وقلت له هل يمكن ان تفسر لى سبب حديثك المسهب عن والدك صانع الحلوى وعدم تناولك الحديث عن والدتك؟
تغيرت فجأة كل ملامح وجهه وظهر وكأنه طفل صغير استعاد حزءا من ذكريات الطفولة وهو يقول لى: أمى إمرأة بسيطة.. كانت الحقيقة إمرأة محبة..تحب زرع الأزهار ومغرمة بالنباتات فحولت الدار الدمشقية دار الطفولة إلى جنة تجرى من تحتها الأنهار.. كان بينى وبينها روابط خصوصية جدا..روابط تفضلنى بها عن أخوتى.. هذا الامتياز من الحنان ربطنى بها جدا.
قلت له إذن كان لوالدتك تأثير عليك؟
بإذن الله الأسبوع القادم أكمل حوارى مع نزار قبانى أكبر شاعر فى الوطن العربى.