الثقافةُ بطبيعتِها «إنسانيةٌ». وهو ما يعنى أنها ذات بعد زمني/تاريخى رحب يحاذيه بعدٌ مكاني/جغرافى لا حد له. ومعنى ذلك أن الثقافة تمتد لكل الأزمنة وكل العهود على مدى التاريخ المعلوم. ومعناه أيضًا أن الثقافة غير مقيدة بمدينة أو مجتمع أو دولة أو قارة، فهى تمتد لكل مكان.
وبالإنتقالِ من الماكرو/الكلى إلى المايكرو/الجزئى، فإن «لا زمانية» الثقافة تعنى أن يكون المثقفُ قد ذهب بعقلِه لكافةِ العصورِ ليعرف ثقافتها وأفكارها وقيمها وآدابها وفنونها. وعمليًا، فإن هذا يعنى أن المحصولَ المعرفى للمثقفِ المعاصر يكون كلوحةِ فسيفساءٍ تتضمن ثقافات بلاد ما بين الرافدين ومصر القديمة وبلاد الإغريق والرومان وبلدان عصر النهضة الأوروبى والثقافات الآسيوية على مر العصور ثم الثقافات الأحدث وفى مقدمتها الثقافات الأوروبية خلال القرون الأربعة الأخيرة.
ونفس الشيء يجب أن يُقال عن مكانية/جغرافية الثقافة. فالمحصولُ الثقافى الذى تسقط منه ثقافة أو ثقافات بعض الجهات، يكون غير مكتمل إنسانيًا.
وما كتبتُه آنفًا، يخرج عدة فئات من تعريف المثقف. ويكفى أن نتخيّل رجلَ دين ما قرأ عشرات وربما مئات الكتب/المراجع عن دينه ولكنه لم يكتشف ثقافات العراق ومصر واليونان وروما القديمين، ولَم يدخل عوالم الفلسفة والآداب والفنون الروسية والفرنسية والألمانية والإيطالية والبريطانية (وغيرها) التى ترعرعت منذ بدايات عصر النهضة وليومنا هذا. فهذا (أى رجل الدين المقصود) هو أبعد ما يكون عن المقصود بالـ"مثقف». وعليه، تكون هناك علامات إستفهام كبيرة وكثيرة عن عقليته ورؤيته وأفكاره وأنساقه القيمية وذوقه.
وهناك فئات أخرى غير الفئة التى يمثلها رجل الدين المنوه عنه أعلاه.. فئات أحادية أو محدودة المناهل المعرفية والثقافية، لا يمكن إعتبار أفرادها من المثقفين أو حتى أنصاف المثقفين. وبعض هؤلاء يقودون مجتمعاتهم!.
ومن المؤكد، أن الإنسان المؤدلج (الأيديولوجي) هو فى منتصف المسافةِ بين «المثقف» و«غير المثقف». وهو مؤهل لأن يكون خطيرًا على «الآخر»، بكل أشكال الآخر أو بكل أنواع الغيرية otherness.
والثقافة بمعناها الإنسانى الذى ذكرته أى المعنى الذى يقوم على كونية المكان والزمان، تتسم بأسسٍ عديدة أهمها الإيمان الراسخ بالتعددية Plurality وبالتالى بالغيرية Otherness فقبول الآخر، وهى أنساق قيمية تقود الإنسان للإيمان بالتعايش المشترك Coexistence وهذه الضفيرة من القيم هى البديل الوحيد لضفيرة أنساق قيمية أخرى بدايتها «نحن: أنا وأفكارى ومعتقداتى نمثل الصواب» وهى قيم تقود لا محالة للعنف والعدوانية والدموية والإرهاب والقتل والحروب.
وعالمنا اليوم يعيش مع ثلاثة أشباح.. كل واحد منها هو مشروع تصادمى مع مفهوم الثقافة الإنسانية الذى شرحتُه. الأول، هو شبح الأصولية الدينية. والثانى، هو شبح أو بقايا شبح اليسار بمعناه الستينياتى الشمولى وليس بمعناه الذى تمثله الأحزاب اليسارية فى معظم بلدان عالمنا الديمقراطية، والثالث هو شبح بقايا القوى الإستعمارية والتى وإن بدت مظهريًا ككيانات عصرية متحضرة ومتمدنة، فهى فى جوهرها وروحها أبعد ما تكون عن القيم التى تتغنى بالإنتساب لها.