الإثنين 03 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الوسط السّعيد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

(ضع كُتبك المعقدة جانبًا.. لا تكن فخورًا، ولا روحانيًا، ولا حتى مرتاحًا، لأن هذا يمكن أن يُظهرك بمظهر المغرور، خفّف من شغفك، لأنه مخيف. وقبل كل شيء، لا تُقدّم لنا فكرة جيدة من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفًا، هذه النظرة الثاقبة في عينيك مُقلِقة: وسّع حَدَقتَي عينيك، وأرخ شفتيك، ينبغي أن يكون للمرء أفكارٌ رخوة، وينبغي أن يُظْهر ذلك، عندما تتحدث عن نفسك، قلل إحساسك بذاتك إلى شيء لا معنى له: يجب أن نكون قادرين على تصنيفك، لقد تغيّر الزمان، فلم يعد هناك اقتحام للباستيل، ولا شيء يقارن بحريق الرايخستاغ، كما أن البارجة الروسية [أورورا] لم تُطلق طلقة واحدة باتجاه اليابان، ومع ذلك، فقد تم شن الهجوم بنجاح: لقد تبوأ التافهون مواقع التأثير).

كتاب  La mediocratie  هو كتاب صدر باللغة الفرنسية، وقد تناول  فيه الفيلسوف الكندي آلان دونو ما أصبح عليه العالم الذي نعيشه من تفاهة ورداءة شاملة في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، بحيث عرفت الدول والمجتمعات تفككًا وانحطاطًا في قيمها الثقافية جعلت من التفاهة واللامبالاة والتبسيطية نمطًا للعيش بدون عمق إنساني يتوخى بناء الإنسان كإستراتيجية، إنه عالم هيمن فيه التافهون على جميع المواقع المؤثرة في المجتمعات، في غفلة من المثقف وأدواره الإستراتيجية نظرًا لسياسة التهميش الممنهجة له وتقزيم مسؤولياته، وتعويضه بما سمي "الخبير" أو التكنوقراط لتدبير الأزمات فقط، وليس تحليل وتفكيك المجتمع وبنائه على أسس صلبة يجعل من الإنسان كجوهر قيمة أساسية في المعادلات الصعبة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

إن التفاهة تشجّعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلًا من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيتٌ وكأنه ضروري - إنها تُحيلنا إلى أغبياء، وتسعى إلى سيطرة وتعميم الرداءة على كل مجالات الحياة، بالاعتماد على التبسيط والسطحية والبهرجة والابتذال.

ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرّف على شخص تافه آخر. معًا، يدعم التافهون بعضهم بعضًا، فيرفع كلّ منهم الآخر. التافه في كثير من الأحيان - يتمثل في مخلوق منحط، يستفيد من معرفته بالأخبار الداخلية والدسائس في أوساط ذوي النفوذ لاستغلال كل موقف لخدمة أهدافه، هو: لم يكن عالمًا ولكنه ذا علاقة بالعلماء، هو: قليل الجدارة ولكنه كان يعرف أشخاصًا ذوي جدارة كبيرة، هو: لم يكن حاذقًا ولكنه كان ذا لسان يجعله مفهوم، وقدمين تحملانه من مكان إلى آخر.

تزيح التفاهة الفكر والمفكرين والمثقفين الذين يتم تهميشهم والاستغناء عن أدوارهم، وتعتمد على الشخص: (التقليدي، الرمادي، الاعتيادي، ذو الكفاءة المتوسطة، المُعاد إنتاجه)، وتطلق عليه الخبير وهو ( تفكيره لم يكن بالأمر الخاص به قط، وإنما هو نظام منطقي تمليه مصالح خاصة، هم يفوّضون قِواهم الفكرية إلى أشخاص أعلى تملي عليهم استراتيجيّاتهم، ويتم إخضاع الشخص المؤهل جديدًا لطقوس عبور ترهيبية مصممة لجعله يفهم أن ديناميكيات السوق لها الأولوية على المبادئ الأوليّة للمؤسسة، وأن المبادئ ينبغي التغاضي عنها....  وبالتالي لا يمكننا أن نتوقع منه أن يقدم مقترحًا قويًا أو أصيلًا، … يقول الدكتور إدوارد سعيد في محاضرته التي ألقاها ضمن محاضرات ريث Reith Lectures السنوية التي أنتجنها قناة BBC  عام ١٩٩٣. فالخبير - هذا السفسطائي المعاصر الذي يُدفع له لكي يفكر بطريقة معينة - إنه ليس مهتمًا بما يتحدث عنه، وإنما يتصرف ضمن إطار ميكانيكي بحت. إنه يتصرف دائمًا وفق ما يعتبرسلوكًا مناسبًا، مهنيًا، فلا تربك الأمور، ولا تشرد بعيدًا عن النماذج والحدود المقررة، مع جعل نفسك قابلًا للتسويق، وقبل كل شيء صالحًا للظهور، ومن ثم غير مثير للجدل، وغير سياسي)، ولمن هم في مواقع السلطة إن هذا الإنسان هو الشخص المعتاد الذي يستطيعون نقل تعليماتهم من خلاله.

إن مواجهة التفاهة تقتضي عودة المثقف إلى الفضاء العمومي لجعله مجالًا للحوار والتواصل ومقارعة الأفكار والبرامج التي تساهم في بناء المواطن والرأي العام وقضاياه المصيرية كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الأفراد والجماعات والمساواة والسلطة وتوزيع الثروة. كما أن الوضع الحالي للعالم يقتضي العودة إلى الفلاسفة المتنورين كـ"جان جاك روسو" الذي ركز في مشروعه الفلسفي على العقد الاجتماعي، أيضا "مونتسكيو" الذي وضع تصورًا لفصل السلط وتوازنها، وفولتير الذي اجتهد فلسفيًا وأدبيًا للتنظير لحرية التعبير والاختلاف والتسامح وتقبل الآخر واحترام الرأي والرأي الآخر، وكانط الذي يؤكد على ضرورة استعمال العقل في القضايا العامة والشأن العام بكل استقلالية ومسؤولية. هذا بالإضافة إلى الفيلسوف الألماني يورجن هابيرماس الذي ساهم في صياغة تصور فلسفي وسياسي لمشروع مجتمعي يصبح فيه الفضاء العمومي مجالًا مهمًا للفعل التواصلي للمواطن والجمهور وصناعة الرأي العام بالاعتماد على حوار الأفكار والإقناع والتشاركية.

مُقتبسًا ما ورد في دفاتر صديقه الشاعر الفرنسي  “لويس بوييه” أورد الروائي الفرنسي جوستاف فلو بير: (آه أيتها التفاهة المُنتِنة، الشّعر النفعي، أدب البيادق، الثرثرة الجمالية، القيء الاقتصادي، المنتج المُقزّز لأمة مستهلكة، إنني أكرهك بجميع قواي الروحية).

*كاتب مهتم بقضايا التنمية البشرية