شاركت إنجلترا وفرنسا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى فى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقًا لمصالحهما الخاصة. اختارت لندن التى كانت صاحبة الانتداب رسميًا على فلسطين فى عام ١٩٢٢ سياسة صهيونية على حساب السكان المحليين. وبعد الوعد بإقامة «وطن قومى لليهود» عام ١٩١٧ خلال وعد بلفور واجهت الحكومة البريطانية غضبًا شعبيًا، وقد أدى وصول سكان جدد ومصادرة أراضيهم إلى الشعور بالهوية والجنسية الفلسطينية.
بدايات الانتفاضة
وعقب وعد بلفور عام ١٩١٧ الذى شجع الهجرة اليهودية اشتدت احتجاجات الفلسطينيين بشكل متزايد. اندلعت أعمال الشغب فى الأعوام ١٩٢٠ و١٩٢١ و١٩٢٩ للمطالبة بإنهاء الانتداب البريطانى، ولمعارضة المشروع الصهيونى بشدة.
وتتحول فلسطين تدريجيًا إلى قلب العروبة النابض فى وجه الصهيونية. وتتصارع الأيديولوجيتان مع بعضهما البعض من خلال الفصائل المسلحة ويتم تشكيل المنظمات شبه العسكرية. وخلال الاضطرابات العديدة التى حدثت فى عشرينيات القرن الماضى، ارتكب الجانبان عدة هجمات. وكان من المنطقى أن يفضل التاج البريطانى المشروع الصهيونى، فى حين يتلقى الفلسطينيون الدعم المعنوى والمالى والعسكرى من عرب الشرق الأوسط. وفى ضوء هذا الوضع تقوم باريس بتزويد القوات الصهيونية وكذلك الفلسطينيين بالأسلحة لزعزعة استقرار الانتداب البريطانى. وتفعل لندن نفس الشيء مع الدروز فى سوريا.
أدى وصول أدولف هتلر على رأس ألمانيا عام ١٩٣٣ إلى تفاقم الأزمة فى فلسطين. وبالفعل وبسبب النازية هاجر أكثر من ١٣٥ ألف يهودى إلى فلسطين خلال هذه الفترة. وكان لهذا التدفق الهائل من الناس ورءوس الأموال أثره فى تعزيز القلق الفلسطينى. فالفلسطينيون الذين يعانون من الانقسامات العشائرية والحركات المتنافسة، منقسمون.البعض يؤيد بين التفاوض مع البريطانيين بينما يفضل القوميون النضال الشامل وناضل القادة الفلسطينيون من أجل الوحدة.
فى مواجهة التواطؤ الأنجلو- صهيونى ورغبة الصهيونى ديفيد بن جوريون فى تأسيس دولة يهودية فى فلسطين، لم يتردد بعض القوميين الفلسطينيين من الاقتراب من ألمانيا النازية. وباعتبارها عدوًا للندن عملت برلين كحليف للعرب. وبدت المواجهة حتمية على الرغم من الجهود البريطانية العديدة لإيجاد حل سلمى.
من الإضراب إلى الثورة
سعت القوات البريطانية جاهدة لاستعادة النظام فى فلسطين. وتزايد صوت الفلسطينيين الذين يطالبون باحترام حقوقهم. وفى هذا السياق العاصف والانتقامى، قُتل ٢ من اليهود على يد احد المتطرفين العرب فى ١٥ إبريل ١٩٣٦. وانتقامًا لذلك قتلت جماعة صهيونية ٢ من العرب وقتل ٩ من يهود فى يافا. أعلن الإنجليز على الفور حالة الطوارئ وفرضوا حظر التجول.
فى ١٢ أبريل ١٩٣٦، دخلت فلسطين فى إضراب عام ضد المحتل. فقد قاموا بمقاطعة المنتجات الإنجليزية والصهيونية. ورفض الفلسطينيون دفع الضرائب. أصيبت أجزاء مختلفة من المجتمع بالشلل «الموانئ والمدارس والقضاء» كما اغلقت الشركات الفلسطينية على أمل الحصول على تنازلات من الإمبراطورية البريطانية. وتلا ذلك هجمات نفذها عرب من فقد قاموا بتخريب السكك الحديدية أو خط الأنابيب الذى يربط كركوك بحيفا. وأمام حجم هذا الإضراب الواسع النطاق وتصاعد أعمال العنف، أرسل الإنجليز لجنة لدراسة المطالب الفلسطينية.
واشارت لجنة بيل إلى أنه لا يمكن لليهود والعرب العيش فى نفس الدولة وقررت اللجنة تقسيم فلسطين إلى دولتين: الجليل والساحل بأكمله سيشكلان دولة يهودية، وبقية الأراضى حتى شرق الأردن «الأردن الحالى» ستشكل دولة عربية. وأيد الصهاينة بقيادة دافيد بن جوريون هذه الخطة. ورفض العرب ذلك بشكل قاطع. وأمام فشل المفاوضات استؤنفت الاحتجاجات واشتدت وتم اغتيال القائد أندرو، الحاكم الإنجليزى المسئول عن الجليل.
اصبحت فلسطين بحكم الأمر الواقع مقرا حقيقيًا للقوات الإنجليزية. وقررت إنجلترا تصعيد قمعها الانتقائى وهاجمت الزعماء القوميين والأعيان العرب. وفى ذروة هذه الأزمة أرسلت لندن ما يصل إلى ٢٠ ألف جندى لقمع التمرد. كانت حصيلة هذه الثورة العربية الكبرى التى استمرت من ١٩٣٦ إلى ١٩٣٩ فى فلسطين مرتفعة. فقد قُتل ٥٠٠٠ عربى و٢٠٠ بريطانى و٥٠٠ يهودى، وتم سجن ما يقرب من ٩٠٠٠ عربى.
عواقب قصيرة المدى
ونظرًا للغضب العربى وعدم قدرة بريطانيا على إدارة فلسطين، أصدر الإنجليز كتابًا أبيض ثالثًا فى عام ١٩٣٩ إذ لابد من كبح الهجرة اليهودية كما ان بيع الأراضى العربية لليهود محدود ومنظم. قدمت هذه الورقة البيضاء للعرب الفلسطينيين تنازلات سياسية مع وعد بالاستقلال فى غضون ١٠ سنوات.
شهدت هذه الفترة من التوترات نشوء الجماعات شبه العسكرية فى المشهد السياسى العسكرى فى فلسطين. وقد تفوقت منظمة الهاجانا الصهيونية والمدربة تدريبًا جيدًا «والتى تعنى الدفاع باللغة العربية» فى مواجهة الجماعات الفلسطينية التى كانت أكثر فوضوية فى أساليبها. عملت هذه المجموعة الهاجانا كتابع للجيش البريطانى. كما نمت جماعة الإرجون المسلحة الصهيونية مع الاحتجاج العربى عام ١٩٣٦ وأثبتت هذه المنظمة العسكرية نفسها كقوة سياسية قوية تدافع عن الصهيونية وهى تؤيد إقامة دولة يهودية على ضفتى نهر الأردن متجاهلة المطالب الفلسطينية.
أما الفلسطينيون فرغم الانقسام وعدم التنظيم عسكريًا وسياسيًا، فقد آمنوا بالقومية وواجهوا المحتل. وعلى الرغم من الهزيمة إلا أن هذه الثورة العظيمة وضعت أسس تنظيم سياسى وطنى تدعمه المنطقة بأكملها. ونتيجة لهذا ففد اتخذ العرب واليهود مواقف متعارضة بحيث اصبح الوصول إلى تسوية أمرا لا يمكن تصوره.
فى لعبة البلياردو هذه ذات الثلاث وسائد يلعب الإنجليز دور الحكم. فهم يقفون فى صف اليهود وضد العرب فقد أدت السياسة الاستعمارية البريطانية والرهان الصهيونى إلى إدخال المنطقة فى دائرة من التوترات المجتمعية والإقليمية.
معلومات عن الكاتب:
ألكسندر عون صحفى فرنسى لبنانى متخصص فى قضايا الشرق الأوسط.. يكتب عن الثورة العربية الكبرى وبروز الشعور القومى بفلسطين فى مواجهة الانتداب البريطانى والعصابات الصهيونية.