لم أقتنع يومًا بفكرة «الكافيه»، ذلك المكان الذي يتجمع فيها الرجال والنساء، ليتسامروا حول أشياء قيمتها الفكرية والنفسية والمعنوية أقل بكثير من أهمية «زلطة» صغيرة في ممر خلفي لعمارة شاهقة تحت التشطيب.
ما الفائدة من جلوس رجل مثقل بالهموم أمام امرأة في مكان مكيف الهواء لفترة طويلة لتزيد من أتعابه وأوجاعه إنها رحلة حقيقية داخل أعماق الجحيم، «حواء» هي العذاب وأول العقاب، وشرارة الجريمة ومن أجلها قتل الرجل شقيقه.. ومن أجل «يدها» يتحمل الأشداء التنكيل والسطوة ويرتحلون بين طباق البؤس.
رحلة طويلة من العذاب لتستقر أمام امرأة في قلب الجحيم على منضدة خشبية مستطيلة بأربع قوائم ليهرول لك النادل ليزيد متاعبك النفسية بأزمات اقتصادية تمر أمامك بألوانها الزاهية التي تزين العصائر باهظة الثمن لتضرب العاصفة آخر ما تبقى في محفظتك فقط من أجل نظرات ثاقبة لامرأة رثة.
على النقيض في مقاهي الرجال، الحياة بلا حساب.. تدور في عقلك عشرات الأسئلة بلا إجابة بل يمكن تأجيل السؤال والجواب، لا تعرف من أين تأتي مضخات سحب الهموم والمشكلات؟! كوب القهوة يأتي لك مع المياه بـ9 جنيهات أو أقل وقد تدفع أو تترك الحساب يوم الحساب.
هنا كل شيء مباح.. السُّباب والنميمة والوشاية والمرح والتنمر.. الحب والكراهية.. الصداقة والأخوة.. المشكلات والحلول.. الخطط والعشوائية.. الشيء ونقيضه.. المباح والمحظور، الضباب والوضوح.
هنا تتجمع كل الفصول.. أحاديث جانبية كالشتاء الدافئ وتشابكات لفظية كالشمس الحارقة في منتصف أغسطس.. ونسمات المودة في مساء مارس للإعلان عن إرهاصات الربيع.. فتتساقط همومك كأوراق الشجر في بداية الخريف.
هي رحلة مع الزمن، بل هي الزمن.. فيها يعود الابن الضال، والأب المكلوم، والزوج المهموم، والعاشق الولهان على واقع كلمات ساحرة لأحمد رامي وألحان نابض لمحمد القصبجي، وصوت الشجن لأم كلثوم.
مقطوعة من الشجن والأحزان، يكتبها «رامي» لقلبه الذي هرب، «طالت ليالي البعاد والليل يطول على الغريب».. ويلحنها «القصبجي» على نبضات الفؤاد الذي احتار على غياب الحبيب، فتهتز القاعات بالتصفيق لكوكب الشرق.
هنا في مقاهي الرجال، كل شيء على طبيعته بلا تكلف أو زينة.. البهجة في النفوس وليست في «الوشوش»، أما «كافيهات» فهي معركة يحتشد فيها الأطباء و«مزين النساء» في مشوار طويل لإخفاء ملامح الحسناء الصفراء الشاحبة والشفتين الجافتين والبشرة المشققة لكي تغزو بجمالها العقول والنفوس والجيوب أيضًا.
رأيت ذات يوم في أحد المقاهي الصغيرة بشارع محمد فريد بوسط القاهرة، أن «الحب رزق ولكن الشقط اجتهاد»، يبدو أنها عبارة أطلقها شخص حالم ليشجع الرجال على الاستمرار في المعركة مع النساء.
لكن في الحقيقة المعركة محسومة.. لنا المقاهي ولهن الكافيتريات.. إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.