الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

تحت مجهر النخبة المصرية.. فلاح مصري بريء من تهمة الاحتلال الإنجليزي..«العصفوري»: افتقر إلى الخبرة والانضباط في ثورته.. «الخشاب»: نجح في إعادة هيبة الجيش المصري

ستاندر- ملف خاص
ستاندر- ملف خاص
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

«إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الأخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق»، ابن خلدون. أحمد عرابي شخصية مختلف عليها لأبعد الحدود. فبينما تراه الأغلبية في مصر كبطل وطني فإن قلة تنتمي إلى النخبة المصرية تراه كشخص محدود الرؤية تسبب برعونته في الاحتلال البريطاني لمصرَ والذي بدأ يوم ١١ يوليو ١٨٨٢، فهل يتعلق الأمر بقراءات متباينة للتاريخ أم أن التاريخ حامل لأوجه متنوعة؟ إلى أي مدى تتوافق القراءة التاريخية العقلانية الموضوعية مع ضرورة تمسكنا بثوابتنا ورموزنا الوطنية؟ نحاول من خلال محاورة عدد من المثقفين المصريين أن نعطي فكرة عن مرحلة وشخصية تاريخيتين مهمتين في عيون النخبة المصرية ألا وهي الثورة العرابية.

وفي الاحتفال بذكرى «عرابي»، لا نبحث عن الإشادة أو الإدانة، لكننا نفكر في المستقبل عبر الإفادة من دروس الماضي.

أحمد عرابي قيمة نضالية ثابتة

الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد 

يقول الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد بأن أحمد عرابي بطل وطني وقومي وشعبي، وما زال رمز مقاومة حتى أن "هوجة عرابي" تعتبر محددا تاريخيا للأحداث إذ يقول المصريون "قبل أو بعد هوجة عرابي". يقوم الشاعر بإلقاء مقطع من إحدى قصائده المنشورة سنة ١٩٦٤:

"لما انْكَسَر عرابي من علي الحصان

لا انهدّ حيل الخيل، ولا قَلِّت الفرسان

ولا كتاب النيل في ليل اتقفل

والدم سايل لسه ع العنوان

يصحي حصان عرابي بعد رقدته

يصحى عشان يضحك في مرة

وألف مرة ينكسر" 

وأضاف بأن «عرابي» فلاح مصري طالب بحقوقه دون وجود دوافع سياسية ولم يكن مسئولًا عن احتلال إنجلترا لمصر. 

الباحث الدكتور كمال مغيث

بينما يستهل الباحث الدكتور كمال مغيث حديثه بسرد مفصل للأحداث التاريخية المتعلقة بنشأة عرابي كمتظلم باسم الضباط المصريين وتحوله إلى قائد سياسي، مؤكدًا في كل المحطات بطولة ونزاهة وإخلاص أحمد عرابي كمناضل وطني:

"في عهد الخديوي إسماعيل أُغرقت مصر بالديون التي بلغت في آخر فترة توليه الحكم أكثر من٩٠ مليون جنيه في توقيت كانت ميزانية الدولة تعادل ٤ ملايين جنيه فضغط صندوق النقد الدولي على مصر وتأزم الوضع فكانت النتيجة أن عُزل الخديوي إسماعيل في يوليو سنة ١٨٧٩ وتولى من بعده زمام الحكم الخديوي توفيق الذي تفاقمت في عهده الأزمة المالية. في فبراير سنة ١٨٨١، لجأ عدد كبير من الضباط لأحمد عرابي مقدمين شكوى بسبب تأخير رواتبهم وفصلهم من الجهادية فكتب أحمد عرابي وصديقه علي فهمي وعبد العال حلمي عريضة احتجاج للخديوي. قام بدعوتهم وزير الحربية وقبض عليهم وسجنوا فتحركت القوات بقيادة أحمد عبيد وأفرجت عنهم وكانت مظاهرة عابدين الأولى في منتصف فبراير ١٨٨١ التي انتهت بعزل عثمان باشا رفقي وزير الحربية أو الجهادية. تولى بعده محمود سامي البارودي المنصب وأصبح بيت أحمد عرابي قلعة للحركة الوطنية ومكانا يجتمع فيه الوطنيون آنذاك مثل عبد الله النديم. تبلورت مطالب الحركة الوطنية في مواجهة وزارة رياض باشا المستبدة ثم أعلن أحمد عرابي عن مظاهرة عابدين الثانية يوم ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١  وتحركت القوات إلى قصر عابدين وفي المشهد التاريخي خرج الخديوي لمقابلتهم وعرض عليهم أحمد عرابي المطالب الثلاثة: عزل وزارة رياض باشا المستبدة، دعوة مجلس شورى النواب للانعقاد، زيادة عدد الجيش إلى ١٨ ألف جندي وهو العدد المعين في الفرمانات السلطانية منذ سنة ١٨٤١. رضخ الخديوي لمطالب الحركة الوطنية بقيادة عرابي وعُين شريف باشا المشهور بأبو الإصلاح وسن شريف باشا دستورا وطنيا جديدا، ولكن في هذا الدستور رفض شريف باشا مناقشة مجلس النواب لقضية الديون لأنه سيتعرض لكيفية تراكم تلك الديون وطريقة إنفاقها والخسائر التي تكبدتها مصر واستغلال الديون من الأوروبيين كوسيلة للهيمنة على مصر فكانت النتيجة كالآتي: رفض العرابيّون الدستور فاستقال شريف باشا وتولى الوزارة محمود سامي البارودي وفي هذه الوزارة أصبح أحمد عرابي وزيرا للجهادية.

لم يكن ممكنا أن يستمر وجود وزارة وطنية في الحكم فأرسلت إنجلترا وفرنسا مذكرة أعلنتا فيها استياءهما من تحرك الوطنيين ومساندتهم للخديوي. رفضها الوطنيون فتم إرسال مذكرة مشتركة طالبتا من خلالها عزل وزارة البارودي ونفي أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي إلى خارج مصر فاحتج البارودي وقدم استقالته. تولى إسماعيل راغب الوزارة فهدأت الأوضاع إلى حد كبير. استغل الإنجليز حادثة، وربما دُبرت، وهي صراع بين حمَّار ومالطي انتهت بقتل هذا المالطي للحمار فتعصب زملاؤه المصريون وقتلوا عددا من الأجانب مما أدى إلى محاصرة القوات الإنجليزية لمصر وطلب تسليم القلاع المصرية والإسكندرية فرفض أحمد عرابي ذلك وتمكن الإنجليز من دخول الإسكندرية ثم حاولوا التوغل داخل البلاد فتصدت لهم قوات أحمد عرابي في كفر الدوار في أغسطس سنة ١٨٨٢ وانتصرت عليهم فارتد الانجليز إلى أسطولهم المرابط على أبواب الإسكندرية واتجهوا شرقا إلى قناة السويس. وزع أحمد عرابي قواته على الساحل واستقر مع قواته في مدينة التل الكبير خلف الإسماعيلية وفكر في إغلاق القناة لمنع الإنجليز من الدخول منها لكن قال له ديليسبس "القنال دولية ومدنية لا تستخدم في الأغراض القتالي" وعلى هذا الأساس لم يهتم أحمد عرابي بإغلاق القنال. وفي ٩ سبتمبر دخل الإنجليز من القنال وتوجهوا من الإسماعيلية إلى التل الكبير وتمكنوا من الانتصار على أحمد عرابي بعد ما قام بعض الخونة بإرشادهم إلى الطرق التي يصلون من خلالها لجيش الزعيم بعيدا عن السبخات الرملية والمائية التي تحيط بالمكان.

انهزم أحمد عرابي ثم عاد إلى القاهرة للتفكير في مواجهة الإنجليز عند دخولهم للقاهرة، ولكن وجد قوة خائرة. مع احتدام المعارك بين عرابى والإنجليز أعلن الخديوي توفيق انحيازه الكامل للانجليز ولجأ إلى سفينة القيادة الانجليزية بقيادة سيمور فأنشد المصريون "ارقصى يا توفيقه لعشيقك سيمور". اجتمع مجلس للأعيان ضم شيوخ الأديان الثلاثة إسلام ومسيحية ويهودية وقرروا عزل الخديوي لخيانته ودعا الضابط محمد عبيد لقتل الخديوي وإعلان الجمهورية وانتهى كل هذا الزخم الثوري بهزيمة عرابى ودخول الانجليز وبصحبتهم الخديوي توفيق الذي بات في حمايتهم. قُبض على ضباط الثورة وقُدموا للمحاكمة أما عبد الله النديم فقد تنكر وعاش متنقلا بين قرى الدلتا لتسع سنوات.

دخل الانجليز القاهرة يوم ١٤ سبتمبر سنة ١٨٨٢ فاضطر أحمد عرابي لتسليم نفسه للإنجليز فأودعوه في السجن هو وبقية أصدقائه، علي فهمي وعبد العال حلمي ومحمود سامي البارودي وغيرهم من أبطال الثورة العرابية. أقيمت لهم محاكمة استمرت أكثر من شهر حاولوا فيها إقناعه بكتابة أنه مذنب لكنه رفض ثم قيل له اكتب ذلك كي تنقذ رقاب زملائك فاستجاب وحُكم على أحمد عرابي وزملائه بالنفي المؤبد إلى جزيرة سيلان. 

في خميس ٢٨ ديسمبر تحركت السفينة التي كان على متنها أحمد عرابي وزملاؤه وعائلاتهم. وقف أحمد عرابي وهو يشاهد جزءا من شاطئ السويس يختفي ويوغل أحمد عرابي في البحر الأحمر قائلا " يا كنانة الله صبرا على الأذى، حتى يأتى الله لك بالنصر".

عاش أحمد عرابي وزملاؤه في جزيرة سيلان وحاول نشر اللغة العربية والإسلام. في سنة،١٩٠١ كان بصره قد ضعف كثيرا فتم إقناعه بكتابة التماس لملكة إنجلترا يطلب فيها العفو والعودة إلى البلاد وعاد فعلا أحد عرابي سنة ١٩٠١.

فى مثل هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن تتعملق الثورة المضادة من أبواق الخديوي توفيق وأعلامه ويكتب أحدهم:

"وما يبقى إذا كنا تبعنا جهولا أحمقا مثل الحمار

فإن يك زاد طولا ليس عقلا فأطول منه عامود السوارى"

ركب عرابي من السويس القطار إلى محطة مصر، عجوزا محطما ضعيف البصر. تقدم منه أحد شباب الحزب الوطني قائلا بصوت عال جدا:

"وديت البلد فى داهية يا كلب يابن الكلب" وبصق في وجهه بصقة هائلة.

نشطت في تلك الأثناء الدعاية التي تتهم عرابي بالطمع في حكم البلاد. وفي ظل حملة شديدة من الحزب الوطني برئاسة مصطفى كامل الذي كان صديقا للخديوي عباس حلمي الثاني، لقب مصطفى كامل أحمد عرابي بالقادم المشئوم وكتب أحمد شوقي عن عرابي:

"صغار في الذهاب وفي الإياب  أهذا كل شأنك يا عرابي

عفا عنك الأباعد والأداني فمن يعفو عن الوطن المصاب" لأن عرابي كان قد طلب العفو من ملكة الإنجليز فعفت عنه.

كان هذا الموقف منتظرا من ربائب الخديوي الذين يكرهون أحمد عرابي لأن اسمه ارتبط بالثورة وبمواجهة أبيه الخديوي توفيق. عاش أحمد عرابي فقيرا لأن قرار النفي ارتبط بمصادرة الألف فدان التي يمتلكها أحمد عرابي دون الافراج عنها. مات أحمد عرابي سنة ١٩١١ فقيرا معدما بعد كتابته ل"كشف الستار عن سر الأسرار" عن النهضة المصرية المعروفة بالثورة العرابية".

ينهي الباحث كمال مغيث سرده للوقائع التاريخية بقوله: 

"أحمد عرابي زعيم وطني مثقف ومفوه ولم يكن بأي حال من الأحوال طامعا في أن يصبح ملكا أو رئيسا للبلاد، ولكن شاءت شخصيته القوية وقدراته التعبيرية على أن يلتف حوليه الضباط والمصريون المطالبون بحقوقهم في مواجهة الاستبداد والسيطرة الأجنبية على البلاد. عُرض على عرابي، لما احتدمت الأحداث عليه، من قبل الانجليز أن يختار منفاه في بريطانيا على أن تمنحه راتب تقاعد شهري يصل إلى خمسين ألف جنيه من الذهب، فرفض وواصل المطالبة بحق مصر في مواجهة الضغوط والديون الأجنبية وحق المصريين في مجلس شورى فكانت كل تلك الأحداث العاصفة".

عرابي وناصر 

يعتقد د.وليد الخشاب بأن أحمد عرابي بطل حقيقي لكنه بطل أرعن. لم يتسبب في الاحتلال البريطاني، لأن الاحتلال كان واقعًا لا محالة. لكن لا شك أن أحمد عرابي قد تسبب بمعنى ما في تدمير الإسكندرية بالذات، تدميرًا لا طائل من ورائه، اللهم إلا إثبات صلابة موقفه ودفاعه عن استقلال مصر ضد العدوان الأجنبي حتى آخر نفس. يمكننا فهم تصرفات أحمد عرابي عشية هزيمته أمام الجيش البريطاني عام ١٨٨٢، على ضوء قراءتنا لتصرفات جمال عبد الناصر عشية هزيمته أمام الجيش الإسرائيلي عام ١٩٦٧.

أحمد عرابي كان بطلًا لأنه نجح في إعادة هيبة الجيش المصري كمؤسسة مؤثرة في آليات الحكم في نهاية القرن التاسع عشر. ونجح عرابي في إعادة بناء الجيش أيام كان قائدًا بارزًا ثم وزيرًا للجهادية (أي وزيرًا للدفاع)، كما أكد بنجاحاته على صعود شريحة من أبناء الفلاحين البسطاء -ملح الأرض من المصريين، مثله- إلى طبقة الحكام التي كانت في غالبيتها العظمى من الأرستقراطية الناطقة بالتركية. وكان بطلًا لأنه بتحديه لسلطة الخديوي أسس لمبدأ أن رأس الدولة ليس الحاكم المطلق. بالإضافة إلى بطولته في الوقوف ضد محاولات بريطانيا السيطرة على مصر ثم وقوفه ضد العمليات العسكرية التي انتهت بالاحتلال البريطاني لمصر.

أما رعونته في رأيي مرجعها تصعيده تحدي القوات العسكرية البريطانية، برغم حشدها قبالة ساحل الإسكندرية. لأن عرابي بخبرته العسكرية، كان يعرف لا شك أن قوة النيران البريطانية أعلى أضعاف المرات من القوة المصرية، وكان يعرف لا شك الوحشية البريطانية التي تماثل الوحشية الأمريكية المعاصرة في حالة الاشتباك العسكري مع دول الجنوب، وبالتالي كان عليه أن يقدر أن الجيش البريطاني سوف يدمر مساحات هائلة من الإسكندرية ولا يكتفي بضرب طوابي الجيش المصري. كما كان عليه أن يعرف أنه سوف يخسر المعركة العسكرية لا محالة. وبالتالي، أرى أن هناك رعونة في تصميمه على استمرار المعركة المسلحة في ضوء تفاوت القدرات العسكرية للطرفين. ثم إنه خسر سياسيًا بعد هزيمته العسكرية المروعة في التل الكبير لأنه هرب من الساحة دون مقاومة حقيقية بعد تلك الهزيمة، فلا استثمر معركة الإسكندرية سياسيًا ليزيد من شعبيته كزعيم سياسي للمقاومة، ولا نظم حرب عصابات ليستمر في المقاومة العسكرية -وإن كانت المقاومة العسكرية في ١٨٨٢ سوف تنتهي بالهزيمة على الأرجح. 

شعبية عرابي تراجعت بشدة بعد نفيه بين عموم المصريين، وإن كانت التيارات الراديكالية في الحركة الوطنية، بالإضافة إلى الآلاف من ملح الأرض، قد ظلت تحتفي بصلابته ورفضه التنازل أمام الاستعمار. لكن الاحتفاء الشديد بعرابي قد صار التيار الغالب بفضل دعاية الدولة منذ يوليو ١٩٥٢، لأن عرابي -بمعنى ما- هو السلف لخلفه جمال عبد الناصر: رجل من أصول مصرية قحة، يصعد اجتماعيًا بفضل خدمته في الجيش، ثم يقترب من السلطة بحيث يكون مشاركًا في بعض سياساتها، في حالة عرابي، أو يتولى السلطة كاملة، في حالة ناصر. وكذلك خسر عرابي وناصر معاركهما العسكرية ضد الاستعمار، لكن كسبا شعبية ما بفضل ما أبدياه من صلابة في مواجهة الاستعمار، حتى لو كان ثمنها دخول معارك غير متكافئة تنتهي بتدمير الجيش في الحالين. 

أحمد عرابي لم يكن مهيأ سياسيا لقيادة مصر

المحلل السياسي حسام نصار

يختلف المثقف والمحلل السياسي حسام نصار مع الدكتور كمال مغيث في قراءته لشخصية عرابي ومدى رجاحة قراراته في محطات تاريخية كثيرة ليلتقي مع د.وليد خشاب على أرض مشتركة. يقول: "في اعتقادي، عرابي لم يكن مهيأ سياسيًا لقيادة مصر، كان شيخ عرب، يملك قدرا كبيرا من النقاء الذي يبلغ حد السذاجة فيسهل خداعه. تلاعب الخديوي توفيق وديليسبس به، وخانه ضباطه الطحاوي وعبد الرحمن حسن وعلي يوسف. لم يجهز الجيش بشكل سليم للدفاع عن مصر، كان غير حاسم بالنسبة لقائد قام بشبه انقلاب عسكري، كان من الممكن أن يعزل الخديوي ولم يعزله، كما كان من الممكن أن يعتقل ويساوم عليه، كان من الممكن أن يعدمه بتهمة الخيانة مثلما فعل كرومويل في إنجلترا لما أعدم تشارلز الأول، كان من الممكن أن يعلن مصر جمهورية ولم يفعل ذلك، كان من الممكن أن يناور ويأخذ تركيا في صفه ولم يناور. لم يكن شخصية سياسية انقلابية تتمتع بقدر عالٍ من التآمر وفهم التآمر. باختصار، كان رجلا بسيطا وُجد في موقف على قدر عال من التعقيد، التعقيد المحلي من ناحية والتعقيد الدولي من ناحية أخرى. لم يمتلك مثل عبد الناصر ذكاء وإلماما استراتيجيا وقدرة على المناورة والتآمر. كان من المفروض أن يكون أكثر صرامة وحسما وقسوة، لكن شخصيته لم تكن على ذلك النحو على الإطلاق. كان رجلا درويشا يحب حلقات الذكر ومجالس الشعر والخطابة، وهذا ما ضيّعه".

 الكاتب والروائي شريف العصفوري

يتفق الكاتب والروائي شريف العصفوري مع المثقف حسام نصار إلى حد ما بالنسبة إلى مدى كفاءة ومهنية أحمد عرابي، وفي نفس السياق وبمستوى تفاصيل أدق، يثير الكاتب عدة استفهامات راميا إلى تحليل أسباب تورط مصر في الديون من وجهة نظره وتسليط الضوء حول التركيبة العرقية للجيش المصري في ظل الهيمنة العثمانية كما أشار إلى الأطراف المسئولة عن وقوع مصر الكامل في براثن الاحتلال الإنجليزي وقدم مفهوما للوطنية المصرية آنذاك، في محتوى يتعارض مع حديث الباحث كمال مغيث:

"تقترب ذكرى معركة التل الكبير يوم ١٣ سبتمبر، فتتداعى الأسئلة والإجابات النمطية المكررة، تعالوا نطرح أسئلة جديدة لنصل إلى إجابات غير نمطية ومكررة. السؤال الأول من هو أحمد عرابي الضابط وما هي طريقة تكوينه المهنية وخبراته العملية كضابط؟  السؤال الثاني: ماهي أدوار أحمد عرابي العسكرية قبل التمردات العسكرية في ١٨٧٩؟ السؤال الثالث: هل هناك علاقة بين هزيمة الولاية المصرية في حربها مع إثيوبيا سنوات ١٨٧٦/١٨٧٥ والأزمة الاقتصادية الطاحنة وفرض شروط الدول الدائنة على النظارة المصرية (النظارة: الوزارة المصرية)؟ السؤال الرابع: هل كان عرابي مؤهلا لقيادة الجيش أو نظارة الحربية أو رئاسة النظارة؟ لا شك أن الأحداث العرابية (بعيدا عن تنميط الثورة أو الهوجة) شكلت عقدة في نمو الوطنية المصرية، واتصالها بالأفكار الجديدة سواء ما كان شائعا في السلطنة العثمانية أو ما أتى به أمثال جمال الدين الأفغاني أو عبد الله النديم والشيخ محمد عبده من محاولات للتجديد، السؤال الخامس إلى أي مدى ارتبطت تمردات الضباط العرابيين بالمد الوطني المصري الوليد؟ هل كانت إرهاصة للعداء مع الطبقة التركوشركسية (الألبانية) التي شكلت الطبقة الإدارية العليا في الولاية المصرية؟ 

الإجابة عن السؤال الأول هو أن عرابي من أسرة ميسورة الحال استطاعت إرساله إلى الأزهر، وفي عمر مبكر إدخاله في الجيش المصري ونيله رتبة قائمقام بسن ٢١ سنة، دون أي تدريب أو تكوين عسكري، وهذا يدحض فكرة اضطهاد الضباط المصريين داخل الجيش المصري "الحديث" أما سردية الاضطهاد فلا شك أعيد تركيبها بأثر رجعي على السردية التاريخية. الإجابة عن السؤال الثاني هو أن الضباط المصريين مثل عرابي اعتادوا قلة الانضباط داخل المؤسسة العسكرية على أرضية اختلاف ثقافتهم مع الثقافة السائدة داخل المؤسسة العسكرية الحديثة، التي تأسست على يد الضابط الفرنسي الكولونيل سيڤ في عهد محمد علي الكبير، كما أن التمدد العسكري المصري كان على حساب القبائل والمناطق جنوب وادي النيل وبالتالي لم يكن الجيش المصري "الحديث" له خبرات في معارك ومواجهات مع دول حديثة أو جيوش عصرية خاصة بعد اتفاقيتي لندن ١٨٣٩ و١٨٤٠ اللتين منعتا الجيش من التمدد على حساب السلطنة العثمانية وأجبرت الولاية المصرية على الانسحاب من الشام والحجاز واليمن، لم يكن الجيش المصري إلا امتدادا للجيش العثماني بفرق من الانكشارية أو الطليعة الألبانية ( للحماية الشخصية لأسرة محمد علي) ثم طبقة مهنية من الضباط الشركس أو الأوروبيين على أساس الكفاءة المهنية والخبرات كما كان متبعا في أوروبا من القرون الوسطى، من منا يعرف أنه من أواخر عهد إسماعيل وحتى تمرد عرابي كان رئيس أركانه ضابطا أمريكيا هو بومروي ستون؟ وكذلك كان قائد المدفعية وياوران الخديوي توفيق بناء على خبراتهم في الحرب الأهلية الأمريكية التي استخدمت فيها أحدث الأسلحة ولعدائهم مع بريطانيا، في الحقيقة للإجابة عن السؤال الثالث والرابع أن عرابي لم يقم بأية أدوار عسكرية بل تم توقيفه من الجيش لعشر سنوات واحتفظ برتبته العسكرية، كما أن الهزيمة العسكرية في إثيوبيا وابادة الجيش قد ألقت بثقلها الاقتصادي والعسكري على مصر، وبالتالي لم يكن عرابي كفؤا أو مجربا لقيادة أي جيش ولا نظارة! في تمرده الأول ولتحييده أنعم عليه الخديوي برتبة الأميرالاي و٧٠٠ فدان! لا شك في رأيي أن الخديوي قد رأى في عرابي طليعة طبقة زراعية مصرية تنوى اقتناص السلطة إلى جانب الثروة ولم تكن الفواصل واضحة بين الوطني المصري أو العثماني، بدليل أن ناظر الحربية العرابي كان محمود سامي البارودي صاحب الأصل التركي. كما أن النتائج لتمرد عرابي هي الانتقال من نصف الاحتلال إلى الاحتلال الكامل، ولم تكن خطيئة عرابي لوحده بل معه الخديوي توفيق والسلطان العثماني.