«الوَلَسْ كسر عُرابي».. هذه هي الكلمة الجديدة التي حلَّت في أفواه المصريين محل الكلمة المُعتادة «الله ينصرك يا عُرابي». وظل الناس في القرى لعقود طويلة بعدها كلما استفظع أحد الغش أو الخيانة وأراد أن يعبر عن سوء عاقبتهما، قال في جد وألم: «الولس كسر عُرابي». بعد أن ساهمت الخيانة في تحويلِ رحى الحرب من ساحة النصر إلى مرارة الهزيمة.
«كانوا يذكرون اسم عُرابي فلا يبتعث هذا الاسم -وا أسفاه- في أذهانهم إلا صور العنف والنَّزَق، وتراهم -وإن لم يقصدوا- يقرنون اسم عُرابي بِمَعَاني الهزيمة والاحتلال والمذلَّة، كأنّ هذه المعاني من مرادفاته».
يُوَثِقُ كتاب «أحمد عُرابي.. الزعيم المُفْتَرَى عليه» للمؤرخ والناقد والشاعر والروائي محمود الخفيف، والذي صدرت طبعته الأولى عن مطبعة الرسالة عام 1947، المعارك التي خاضها عُرابي في «كفر الدوار»، ومرارة الهزيمة التي تعرض لها في معركة «التل الكبير"، مُبرزا أهمية الدور الذي تلعبه. وجسّد في كتابه مُعاناة عُرابي في «قشلاق عابدين»، والمسرحية الهزلية التي تعرض لها في محاكمته، التي أعقبها رحيله إلى المنفى في جزيرة «سرنديب» الذي استمر تسعة عشر عامًا، تحول فيها في أذهان الأجيال، من صورة الزعيم الوطني المناضل، إلى المتهم الذي جلب الاحتلال إلى تراب الأوطان.
يؤكد تلك النظرة ما ذكره المفكر الراحل الدكتور رفعت السعيد في مقدمة كتابه «الأساس الاجتماعي للثورة العُرابية» -الذي وضع مقدمته خالد محي الدين في عام 1966 وصدر عن مكتبة مدبولي- من إحدى القصص المتوارثة عند الفلاحين، عن شيخ أبيض الشعر دخل أحد مقاهي المنصورة، وظل جالسًا وحده دون أن يكلم أحدا، حتى اقترب منه أفندي، وسأله: أأنت عُرابي باشا الخائن؟ فبهت العجوز وصمت برهة، ثم قال: نعم، أنا عُرابي، ولكنني لست خائنًا، ولست باشا. ثم انصرف إلى داره حزينًا، وظل بها حتى مات.
نفر من الضباط
يروي الخفيف حكاية عُرابي منذ كان طفلا في قريته، وحتى صار هذا الفلاح قائدا ثائرا في الجيش المصري؛ لافتا إلى أن بداية الزعيم الثورية لم تظهر فجأة، بل نضجت في أروقة الجيش المصري الغاضب من التدخلات الأجنبية في عهد الخديوي إسماعيل وابنه توفيق فيما بعد. حيث تم الاستغناء عن عدد كبير منهم، ومن تأخُّر مرتباتهم عنهم، بينما كان لا يلحق بالشراكسة في الجيش شيء من هذا. ويشير إلى ما كتبه الشاعر والمستشرق الإنجليزي ويلفريد بلنت في كتابه «التاريخ السري» عن «حركة لنفر من الضباط المصريين في شهر مايو سنة 1880، وكان من بينهم أحمد عُرابي».
وخلاصة هذه الحركة، كما يصفها بلنت، أن هؤلاء الضباط «قدموا شكوى إلى وزارة الجهادية من تأخر مرتباتهم، ونظرت الوزارة في الأمر. وكان قنصلا إنجلترا وفرنسا قد تدخلا فيه، وأُلِّفت لجنة لتحقيق المسألة، وقد أقرَّت هذه اللجنة مطالب الضباط، ولكن رياضًا يقصد رياض باشا رئيس الوزراء آنذاك- ووزيره -ناظر الجهادية عثمان رفقي- رأيا في ذلك العمل القانوني حركة جريئة، وخروجًا على النظام».
ويقول بلنت: «أبدى قنصل فرنسا البارون دي رنج كثيرًا من العطف على هؤلاء الضباط، وأصبح محبوبًا لديهم، وكان بين هذا القنصل وبين رياض كثير من الحزازات. وكان لعُرابي نشاطا ملحوظا في هذه الحركة، ولكنه كان معتدلًا، حتى لقد اكتسب باعتداله ثناء القناصل عليه».
وينقل رفعت السعيد عن عُرابي مخاطبته الأتراك والجراكسة عن مصدر ثروتهم قائلا «أتيتمونا فقراء لا تملكون أرضا ولا فلسا فصرتم الآن أصحاب أراض وأملاك تحرموننا من خيرها». وكانت كلماته -وفق السعيد- دفعت الكثير من الفلاحين المظلومين إلى التمرد في وجه الأجانب «وكان بعضهم لا يكتفي بمثل هذا الكلام بل كانوا يعمدون إلى الأرض ويقتسمونها قائلين هذه القطة لك وهذه لي. بل يقولون لصاحبها اخرج من البلاد كما جئتها فكان أصحاب الأراضي يزدادون خزفا وحسبانا لبلاء أعظم فانقطع كثيرون منهم عن التردد إلى أرضهم ولزموا منازلهم. وهكذا ولأول مرة في تاريخ مصر يشكوا الباشوات الأتراك من ظلم الفلاحين ويتحدثون عن معاناتهم».
في تلك الفترة، كان عثمان رفقي يعدّ مشروع قانون يمنع به ترقية الجند من تحت السلاح، لكي يبقى الشراكسة في الجيش هم العنصر الذي يسود. وعن في الرتب العُليا وكبار الضباط، فقد بدأ يعزلهم أو يقصيهم عن مواضعهم. وأمّا عن الجند، فقد كانت الحكومة تُسّخِرْهم في أعمال لا تمتُّ بصلة إلى الجندية كحفر الترع والزراعة في أرض الخديو وغير ذلك «ومما هو جدير بالذكر هنا أن عُرابي عارض معارضة شديدة في أن يعمل جنوده في حفر الرياح التوفيقي»، كما يقول الخفيف.
لهذه السُمعة، فوجئ عُرابي بحشد من الضباط من الرتب المختلفة من بينهم علي فهمي أميرالاي حرس الخديوي -فقد وشى به رفقي عند الخديو حتى غيَّره عليه وأحس فهمي أن مكانته عند توفيق لم تعد كما كانت-يجتمعون به في منزله. في مذكراته، يروي عُرابي أنه نصحهم بأن يعتمدوا على رؤسائهم ويفوضوا إليهم النظر في مصالحهم «وهم يتخذون من بينهم رئيسًا لهم يثقون به كل الثقة ويسمعون قوله ويطيعون أمره، ويحفظونه بمعاضدتكم إذا أرادت الحكومة به شرًّا». عندها فوجئ بإجماعهم على اختياره هذا الدور، رفض في البداية، ثم وافق عندما أقسموا له جميعا على الولاء.
يقول عُرابي: «وفي الحال كتبت عريضة إلى رئيس النظار مصطفى رياض باشا مقتضاها الشكوى من تعصب عثمان رفقي باشا لجنسه وإجحافه بحقوق الوطنيين، وطلبت فيها أولًا: عزل ناظر الجهادية المذكور وتعيين غيره من أبناء الوطن عملًا بالقوانين التي بأيدينا، ثانيًا: تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة تنفيذًا للأمر الخديوي الصادر عقب ارتقائه مسند الخديوية، ثالثًا: إبلاغ الجيش العامل إلى 18000 تطبيقًا للفرمان السلطاني، رابعًا: تعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للعدل والمساواة بين جميع الموظّفين بصرف النظر عن اختلاف الأجناس والمذاهب».
وفي مطلع عام 1881 جاءت حادثة «قصر النيل» الشهيرة، التي انتهت بعزل رفقي باشا وتعيين محمود سامي البارودي -الذي كان رغم أصوله غير المصرية مناصرا للضباط المصريين- ناظرا للجهادية.
ونعود إلى بلنت الذي كتب: «كان تاريخ هذه القلاقل العسكرية في قصر النيل هو أول فبراير سنة 1881، وقد حدث وكنت لا أزال في مصر ولكن بعد أن غادرت القاهرة، ولستُ أتذكر أني سمعت اسم عُرابي يذكر قبل حدوثها، ولكن الدور الذي لعبه في ذلك اليوم قد أكسبه شهرة سريعة، وسرعان ما صار اسمه على كل لسان، اسم رجل نجح في تحدي الحكومة والظهور عليها وإحداث تغيير في الوزراء، وأصبح مقامه في بضعة أسابيع مقام رجل ذي نفوذ وقوة في مصر أو على الأقل أصبح يُعزى إليه القوة، وصارت تتقاطر عليه -كما هي العادة في مصر- الظلامات من أناس عانوا الظلم ويطلبون معونته للوصول إلى العدالة».
يضيف: «لقد أذاع صيته خارج القاهرة ظهوره في ثورته بمظهر الذي يحمي الفلاحين من جور الحكام الشراكسة، واتّصل به كثيرون من الأعيان ومشايخ البلاد، وكان يرد على كلٍّ بما يسعه من رد حسن أو بما يدخل في طوقه المحدود من عون، وكان يؤثر في الناس تأثيرًا حسنًا أينما لقوه بحسن محضره وبابتسامته الجذَّابة وفصاحته في الحوار».
وتابع: «لقد اتّفق كل الاتفاق لعُرابي في مظهره الشخصي من المواهب ما يهيئه إلى ما ندب له من دور يلعبه في تاريخ مصر ممثلًا طبقته، فهو فلّاح كأدقّ ما تكون صورة الفلاح، طويل القامة، ثقيل الساقين، بطيء الحركة إلى حد ما، وبهذه الصفات تتمثّل لنا فيه قوة البدن الممتلئ التي هي من خصائص الفلاح العامل في دلتا النيل، ولم يكن له شيء من خفة الجندي، وكان في ملامحه شيء من ذلك السكون الذي أكسبه الوقار والذي يلمحه المرء في وجوه مشايخ القرى، وكانت ملامحه مظلمة في حال سكونه، وكانت لعينيه نظرة جامدة كنظرة الحالم، وليس يفطن المرء إلا حين يبتسم أو يتكلم إلى ما بنفسه من ذكاء عظيم وعطف، فعندئذ يُشرق وجهه كما يشرق المنظر المظلم بنور الشمس».
وأكد: «يجب أن نذكر أنه في تاريخ مصر كله لم يبرز في مدى ثلاثة قرون على الأقل فلاح بسيط إلى أن يصبح ذا مكانة سياسية لها خطرها، أو إلى أن يصبح داعية إصلاح، أو إلى أن يهمس بكلمة تدعو حقًّا إلى الثورة».
في مواجهة الاحتلال
أمّا المواجهة الكبرى التي جرت بساحة سراي عابدين، في التاسع من سبتمبر 1881 بين عُرابي ورجاله والخديوي توفيق. فقد حاول رجال السراي بكل الطرق التهويل من شأنها. كان أشهرها ما نشرته جريدة الأهرام -التي كان أصحابها يتمتعون بعلاقات قوية مع السراي والأجانب- في اليوم التالي، بتغطية متحفظة لهذه المواجهة تحت عنوان «حادثة مصر»، وجاء فيها: «وردت العساكر إلى فسحة سراي عابدين وكان قد أرسل حضرات الضباط بشيركولارى إلى جانب القناصل يعلنون فيه أنه ليس لهم من غاية في إيقاع ضرر بأحد من الأجانب أو الوطنيين وسواهم ولكن لهم غاية واحدة تنحصر في ثلاث مسائل. أولاها: تغيير الوزارة واستبدالها بوزارة يؤلفها دولة شريف باشا. الثانية إقامة مجلس نواب. والثالثة وجوب السير بموجب القانون العسكري الذي رتبه القومسيون المشكل من وطنيين وأجنبيين وقد رفعوا هذه المطالب إلى سمو الخديوي المعظم والتمسوا منه التكرم بإجابة طلبهم».
ووفقا للأهرام، فإن طلب تغيير الوزارة قد تم الاستجابة له بعد حضور عدد من قناصل الدول إلى سراي عابدين. هكذا توحى تغطية الأهرام بأن الأزمة لم تكن عظمى وتم احتواؤها سريعا «وبعد ذلك تفرقت العساكر معلنة تمام خضوعها لسمو الخديوي المعظم».
ثم جاء تعليق إضافي من «الأهرام» نفسها: «إن الاضطراب الذي استولى أمس في ثغرنا منشؤه اختلاف الأخبار وغلوها ومبالغتها وقد أول الناس الحوادث إلى تأويلات شتى وبنوا عليها. وزادت هذه الأخبار في اضطراب مركز البورس -البورصة- حتى سقط السعر إلى الحد الذي ترى وداخل العالم الخوف، على حين علم الجميع أن الحوادث قد انجلت على غير فتنة أو مضرة وأن المسألة المالية ولئن تأثرت فلا يكون تأثيرها إلى الحد الذي توهمه البعض».
ويقول رفعت السعيد: «لقد رفض عُرابي أن يصبح أداة في يد السلطان مقابل كرسي الخديوية. ولم تكن هذه المرة الأولى التي يعرض فيها كرسي الخديوية على عُرابي فقد عرض عليه محمود سامي البارودي -وكان وقتها ناظرا للجهادية- أن يندى به خديويا لمصر. لكن عُرابي يرفض قائلا: لا يا محمود باشا، فأنا لا أريد إلا تحرير بلادي، وليس لي طمع أصلا في الاستئثار بالمنافع الشخصية».
وفي كتابه المرجعي «الثورة العُرابية» الصادر عام 1970، يُشير الكاتب الراحل صلاح عيسى إلى أن: «الثورة العُرابية هي الرد المصري الذي كان يهدف إلى إيقاف الغزو الاستعماري الأوروبي لمصر. لقد انفجرت الثورة في مواجهة حالة استعمارية فعلية تمت بطريق الغزو السلمي التدريجي».
وأوضح «عيسى» أن الحالة الاستعمارية التدريجية تلك بدأت بتوقيع محمد علي باشا معاهدة لندن 1840 والتي حدت من توسع دولته عسكريا وتمدد سطوة مصر جغرافيا وسياسيا. وأن أهم أدواتها لاحقا للاستيلاء على السلطة، كانت بتصدير رؤوس الأموال على هيئة قروض في عهدي محمد سعيد باشا والخديوي إسماعيل «فهذه القروض التي باتت ديونا مهدت تمهيدا ناعما جهنميا إلى تكوين مؤسسات اقتصادية وسياسية حلت محل السلطة السياسية التقليدية في المجتمع المصري»، مشيرا إلى واقع الحكومة المختلطة بوزيريها الأوروبيين -أو الرقيبين- وتعضيد مكانة «المحاكم القنصلية» التي باتت «المحاكم المختلطة».
يضيف عيسى: «والأهم تأسيس ما عرف بـ «الجمعية التشريعية للمحاكم المختلطة»، وهي «مجلس تشريعي أجنبي لا يصدر قانونا في النية تطبيقه على الأجانب دون عرضه على الجمعية المذكورة وموافقتها عليه».
لماذا إذن تم التصعيد واستبدال الغزو السلمي التدريجي بغزو عسكري فعلى؟
يوضح صلاح عيسى أن تطور حركة المقاومة المصرية إلى حد هدد خطة الاحتلال السلمي، وذلك بعد إسقاط الوزارة المختلطة "فكان يتوجب أن يجري ما جرى".
ويشير الخفيف في كتابه إلى أن معركة التل الكبير -التي كانت في الحقيقة مذبحة- هي «أروع مثل في تاريخ الحروب للخيانة كيف تودي بجيش من الجيوش". بينما ادعى خصوم عُرابي ساخرين أنه سهر طول ليلة المعركة في حلقة ذكر مع جيشه وفي قراءة الأدعية مع رجال الطرق الصوفية «فلم ينم العساكر وبذلك لم يستطيعوا الحرب في الصباح».
هنا، نقرأ ما كتبه الإمام محمد عبده عن خيانة فريدنايند ديليسبس مؤسس مشروع وشركة قناة السويس، وما ذكره بلنت في تعقيبه على رسالة من رسائل عُرابي إلى دي لسبس. يقول: «عُرابي اعتمد على دي لسبس في حماية القنال، وكان يظن أن مس القنال يهيج عليه جميع الأمم لهذا ترك هذه الناحية عوراء، وعندما أحس دي لسبس بأن الجيش المصري قد يتحرك ناحية القنال كتب تلغرافًا لعُرابي يقول له: من المستحيل أن عساكر الإنجليز تمر من القنال».
وأضاف: «وبعد واقعة مهمة في ناحية كفر الدوار جاء الخبر عقبها بأن اثنتين وثلاثين سفينة توجهت إلى القنال، فورد تلغراف من دي لسبس يقول: لا تسرع في شيء يمس القتال، لا يمر عسكري إنجليزي إلا ومعه فرنسي، أنا مسؤول عن كل ما يحدث. فأجيب بأن هذا غير كاف وتقرر إرسال جيش، ثم أرسل الجواب ببطء، وقبل أن يتحرك عسكري إلى ناحية القنال، كان الجيش الإنجليزي قد احتله؛ وذلك لتأخر الجيش 15 ساعة في إبلاغ دي لسبس، ويظهر أنه كان في الحاضرين خونة نقلوا الأخبار وأخطأوا في التبليغ».
أما بلنت؛ فقد أورد في كتابه أحد ردود عُرابي على ديليسبس: «لما كنت أحترم حيدة القنال احترامًا كليًّا وخاصة أنها عمل من الأعمال العظيمة ولأن اسم سعادتكم سوف يقترن بها في التاريخ، فإني أتشرف بإبلاغكم أن الحكومة المصرية سوف لا تعتدي على هذه الحيدة إلا عند الضرورة القصوى وفي حالة ما إذا ارتكب الإنجليز بعض الأعمال العدوانية في الإسماعيلية وبورسعيد أو في أي جزء آخر من القنال».
ويعقب بلنت على ذلك بقوله: «هنا نجد المبدأ قد وضع وضعًا طيبًا في وضوح ولكن موضع الضعف فيه يرى في أنه يدع للعدو أن يقترف أول خطوة عدائية بدل أن يحول بينه وبين ذلك من قبل ويمنعه».
خانه كل من حوله
جاءت الخيانة على عدة صور فقبائل البدو في الصحراء قد أفسدها الإنجليز والجراكسة، وبعض ضباط الجيش أصبحوا في جانب العدو إلى درجة لم يعرف لها نظير في تاريخ الحروب. بل، والسلطان نفسه أعلن عصيان عُرابي في الساعة الفاصلة. كما يؤكد الخفيف أنه لا يُمكن إغفال حقد بعض رجال عُرابي عليه «إذ رأوه -وقد كان دونهم- يغدو رجل الأمة ومناط رجائها، ولعل ذلك هو ما أحفظ سلطان عليه وجعله يسعى سعيه ضده». وقد أشار بلنت إلى ذلك في قوله: «ولو أن طبقات الجيش الدنيا قد اتبعت عُرابي في ولاء وحماسة شديدين، إلا أنه أثار حقدًا ليس بالقليل بين رجال طبقته العليا من الضباط؛ وذلك لأنهم كانوا يعدون أنفسهم كجند أكفأ كثيرًا منه».
وذكر بلنت في موضع آخر فيما أورده في يومياته سنة 1884، أن الأمير كامل قال له: «إن عُرابي قد خانه كل من كانوا حوله، وقد خانه بعضهم ابتغاء الحصول على الذهب، وبعضهم بدافع الحقد». كما لفت المستشرق الإنجليزي إلى أنه «حدث أثناء هذه المعركة أن كانوا نحو 18 ألفًا من المصريين على مقربة من نحو 2500 من الإنجليز فيهم دوق كنوت، ولو أن علي يوسف الذي كان يقود القلب تقدم لسحق الإنجليز وأسر الدوق، ولكنه تأخر برجاله وترك العدو يحيط بالجناحين».
وفي كتابه «الثورة العُرابية»، يصف الكاتب الكبير عبد الرحمن الرافعي القائد الإنجليزي الجنرال ولسلي بأنه «لم يكن من القواد الذين اشتهروا بالكفاءة العالية في القيادة ولا ممن امتازوا في معاركَ سابقةٍ بالنبوغ في الفنون الحربية، بل كل ما عرف عنه أنه اشترك من قبل في حرب القرم وفي بعض الحملات الاستعمارية الإنجليزية، وكان لم يزل برتبة قائمقام جنرال حين تولى قيادة الحملة على مصر سنة 1882، فلما انتهت بهزيمة العُرابيين في التل الكبير واحتلال العاصمة، انهالت عليه ألقاب الشرف والتكريم، فنال لقب لورد «فيكونت» ولسلي أوف كايرو، ورتبة جنرال وغير ذلك من علامات التقدير».
ويشير الرافعي إلى أن ولسلي تولى فيما بعد -سنة 1882 أيضا- قيادة الحملة على قوات المهدي في دنقلة بالسودان «فانتهت بإخفاقها ومقتل غوردن باشا». وتولى سنة 1903 قيادة الجيش الإنجليزي في حرب البوير بالترنسفال «فباء بالهزيمة والخسران، وعدته حكومته مسؤولًا عن النكبة التي حلَّت بالجيش الإنجليزي، فعزلته عن قيادته وعينت بدله الجنرال اللورد روبرتس».
وأكد الرافعي: «هكذا يتضح لك أن قيادة الجيش الإنجليزي وذات الجيش الإنجليزي الذي هاجم مصر سنة 1882 لم يكونا كافيين للظفر بها واحتلالها، لولا الانقسام الذي أضعف قوة الدفاع عنها».
وقال السعيد: «الذي هزم عُرابي ليس الجنرال ولسلي، لكن الذي هزمه هو السلطان باشا وزملاء سلطان باشا الخونة. وأصدر الخديوي قرارا بأن يعطى كل من يترك جيش عُرابي مرتب شهر ونصف. وتوالت نياشين الخديوي وإنعاماته على الخونة».