ظل خالد محيى الدين (١٩٢٢-٢٠١٨) ينشط بفاعلية فى الحياة العامة وعلى مسرح الحياة السياسية فى مصر المعاصرة لنحو سبعين عامًا. عمل ذلك سواء كان عضوًا مؤسسًا فى حركة الضباط الأحرار، أو أحد أعضاء مجلس قيادة ثورة ٢٣ يوليو وقائدًا لسلاح الفرسان الذى شارك فى إنجاح الثورة، أو كان نائبًا فى البرلمان أو رئيسًا للفرع الإقليمى لمجلس السلام العالمى، أو أحد مؤسسى الفرع المصرى للمؤسسة العربية لحقوق الإنسان، وحتى تأسيسه وقيادته لحزب التجمع. وبرغم تكاثر المنظمات الشيوعية والاشتراكية فى مصر منذ منتصف الستينيات وحتى الألفية الجديدة، فقد ظلت المؤسسات السياسية الغربية ووسائل إعلامها الدولية فى واشنطن ولندن وباريس، تعتبره حتى اللحظات الأخيرة زعيمًا لليسار المصرى.
وأثناء أزمة مارس الشهيرة عام ١٩٥٤، كلف مجلس قيادة الثورة الذى كان يقود البلاد قيادة جماعية، خالد محيى الدين بالتعاون مع محمد نجيب الذى كان يشغل آنذاك موقع رئيس الجمهورية، بأن يشكل حكومة مدنية تهيئ البلاد لإصدار دستور الثورة الذى يحول مصر إلى جمهورية برلمانية، بحيث تشكل الثورة حزبا باسم "الحزب الجمهورى الإشتركى" وتخوض به الانتخابات النيابية. وبعد يوم واحد من إصداره، تراجع مجلس قيادة الثورة عن قراره، وألغى التكليف، فانسحب خالد محيى الدين من عضوية المجلس، بعد أن كان قد سبقه من الانسحاب منه يوسف صديق الذى لعب دورًا أساسيًا فى نجاح الثورة حين حاصر مبنى الجيش واعتقل قادته، وكان السبب وراء الإنسحابين، رفض المجلس عودة التعددية الحزبية التى تعد أساسًا لبناء الديمقراطية.
وأمام كل تلك الأدوار لم يتوقف كثيرون عن جانب مهم من جوانب رحلته السياسية، وهو خالد محيى الدين الصحفى. كانت مصر قد عرفت الصحافة اليسارية، فى أواخر الثلاثنيات من القرن العشرين، وجاء ذلك متلازمًا مع بدء ظهور التنظيمات الشيوعية المصرية بجانب نهضة حداثية، يقودها كتاب ومفكرون من دعاة الفكر الإشتراكى وقادته. وكانت تلك الصحف كما قال الدكتور رفعت السعيد فى كتبه بمثابة الوجه العلنى للتنظيم السرى، وقد تكون بديلًا عنه، ووسيلة من وسائل التنظيم والحشد والتعبئة، ومنبرًا يدافع من خلاله التنظيم السياسى عن مبادئه ويروج لها. وحين قامت ثورة يوليو، لم يكن لها تنظيم سياسى خاص بها،ولم تكن لها صحف تنطق باسمها.
بدأت ثورة يوليو ترسى دعائم حكمها، فى ظل رواسب المجتمع الملكى الذى ثارت عليه، وتحكمت فى صحافته مصالح مالية وسياسية مضادة لتوجهات الثورة. ومن هنا بدأت ثورة يوليو فى التوجه نحو إنشاء منابر صحفية تعبرعنها، فأصدرت فى الأشهر الأولى من قيامها مجلة "التحرير" التى بدأت نصف شهرية وتحولت إلى أسبوعية، وأوكلت الإشراف عليها لكل من أحمد حمروش وثروت عكاشة. وفى عام ١٩٥٣ أصدرت جريدة "الجمهورية" تحت إشراف أنور السادات. وفى عام ١٩٥٧ أوكلت الثورة إلى لطفى واكد مسئولية إصدار صحيفة "الشعب" والإشراف عليها.
وحين قفل خالد محيى الدين عائدًا إلى مصر من منفاه السويسرى، خيره الرئيس عبد الناصر بين أن يكون سفيرًا أو يصدر صحيفة مسائية لليسار، فاختار الثانية. وبالفعل صدر العدد الأول من صحيفة "المساء" التى أسسها فى أكتوبرعام ١٩٥٦، وتحت رئاسته لعبت المساء أدوارًا مهمة فى المجالات السياسية والاقتصادية والصحفية. وأصبحت منبرًا لبلورة الاتجاهات التقدمية فى مجالات الفكر والفن والإبداع المختلفة. وعرف شعر بيرم التونسى وفؤاد حداد، وغيرهم من شعراء العامية طريقه للنشر الصحفى، بعدما كان محبوسًا فى أضابير الكتب. كما تألق على صفحاتها يوسف إدريس وألفريد فرج ويوسف الشارونى وعبد الرحمن الخميسى ومحمد سيد أحمد وسعد كامل ومحمود العالم وعبد المجيد نعمان وعبد العظيم أنيس وعبد الفتاح الجمل ونبيل زكى وفيليب جلاب.
أصبحت جريدة "المساء" بما تنطوى عليه من كوكبة من ألمع الكتاب والمفكرين والمبدعين والصفحيين والمحللين السياسيين ورسامى الكاريكاتور، الذين حملوا مسئولية الصحف المصرية فيما بعد، مدرسة لصحافة الرأى، التى تعتنى بالتعدد، ويشع تأثيرها بالتنوع والاختلاف، إلى أن تدخلت التطورات السياسية فى مصر والمنطقة العربية، فأنهت تلك التجربة المهمة فى تاريخ الصحافة المصرية.
كانت الوحدة المصرية – السورية قد تحققت، وتولى عبد الكريم قاسم الحكم فى العراق، واشتد الخلاف بينه وبين "عبد الناصر" واتسعت الهوة بين الرئيس عبد الناصر وقوى اليسار الذى عارض الشروط التى قامت على أساسها الوحدة، وانتهى هذا المشهد بحملات على قوى اليسار وقيادته فى يناير ١٩٥٩، وكان بينهم بطبيعة الحال معظم هيئة تحرير جريدة "المساء". وفى ١٣ مارس من نفس العام، أقيل خالد محيى الدين من رئاسة تحرير صحيفة "المساء"، بعدما اعترض على وصف قوى اليسار فى مصر والعراق بالخونة والعملاء.
وبرغم تولى خالد محيى الدين بعدها رئاسة مجلس إدارة مؤسسة "أخبار اليوم"، ورئاسته لمجلس إدارة صحيفة "الأهالى" الناطقة بلسان حزب التجمع، ورئاسة تحريرها فى بدايات إصدارها الأول، فإن تجربة تأسيسه وإدارته لصحيفة "المساء"، تبقى هى الأكثر اكتمالًا والأكثر تأثيرًا، والأقرب إلى روح خالد محيى الدين وإلى ميوله الفكرية التى ترسو بعمق عند الشواطئ التى تعزز حريات الرأى والتعبير وتظل تجربة لم تأخذ حقها فى البحث والدراسة، وأتمنى ألا يكون ذلك التقصير لأسباب سياسية.
أمينة النقاش: كاتبة صحفية ورئيس مجلس إدارة صحيفة "الأهالى"