الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

فن الإصغاء ومعرفة الذات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الدوغمائية هي حالة من الجمود الفكري، حيث يتعصب فيها الشخص لأفكارهِ الخاصة لدرجة رفضهِ الاطلاع على الأفكار المخالفة، وإن ظهرت لهُ الدلائل التي تثبت لهُ أن أفكارهُ خاطئة، سيحاربها بكل ما أوتي من قوة، ويصارع من أجل إثبات صحة أفكارهِ وآرائهِ، وتعتبر حالة شديدة من التعصب للأفكار والمبادئ والقناعات، لدرجة معاداة كل ما يختلف عنها.  فهي  الاعتقاد الجازم واليقين المطلق دون الاستناد إلى براهين يقينية، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق!، والدوغمائية ليست مذهبًا فلسفيًا أو دينيًا، وإنما هي –في أكثر معانيها انتشارًا- سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، أو السياقات المكانية والاجتماعية؛ فهي إذن مقدسة ومنزهة عن أي نقد، وعدم إخضاع هذه المعتقدات لفحص نقدي أو تحليلي يراجع الأسس التي تقوم عليها.

أما النسبوية فهي مصطلح يستخدمه الفلاسفة للدلالة على المنحى الفلسفي الذي يقول بعدم وجود حقيقة مطلقة (فكون معتقد ما حقيقيًا صحيحًا أو لا، هذا أمر يعود للشخص نفسه الذي يؤمن بهذا الشيء)، وعملية تقييم المجتمعات الإنسانية للقيم والسلوكيات هي نتاج النسيج التاريخي الثقافي لهذه الجماعة البشرية وليس له علاقة بمرجعية خارجية مطلقة تمد هذا التقييم بقدسية معينة وتحول دون تغييرها، بالتالي فعملية إعادة تقييم السلوكيات والمثل البشرية ضرورية كل فترة وهي تختلف من مكان لآخر ومن جماعة لأخرى

الدوغمائية والنسبوية تستبعدان كل حوار حقيقي، حيث تجعله النسبوية غير مفيد وتجعله الدوغمائية مستحيلًا، إن نجاح أي حوار له شرطان:

أولهما: أن يفهم المرء أن للطرف الأخر، أي المشارك في الحوار، حقًا يساوي حقه جوهريًا، وهذا يعني أن يأخذ المرء رأيه بجدية بوصفه رأيًا ممكنًا يستطيع أن يناقشه، يقول الفيلسوف الألماني بولنوف: (إن الشرط الأول للحوار هو القدرة على الإصغاء إلى الآخر، والإصغاء يعني أكثر من التقاط الإشارات الصوتية، كذلك أكثر من فهم ما يقوله الآخر، إنه يعنى أنه أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئا مهما بالنسبة إلي، شيئا عليّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة، على تغيير رأيي).

أما الشرط الثاني: فهو الثقة بالآخر، يقول الفيلسوف الصيني لاوتسه: (إذا لم تثق بما فيه الكفاية، فلا أحد سيثق بك).

ويساعد كتاب إريك فروم "فن الإصغاء" قارئه في فهم نفسه وتحليلها، ثم شفائها من العلل والمشكلات والأزمات التي لا يكاد يخلو منها أحد من الناس، في مستويات ودرجات متفاوتة، والسؤال الذي يريد أن يتعمق فيه إريك فروم في كتابه هو: كيف لي أن أصغي إلى الآخر وأثق به إذا كنت أساسا ً لا أصغي إلى نفسي ولا أثق بها؟، يبيين فروم: (أن شرط الإصغاء إلى الآخر هو الإصغاء إلى الذات، وإن إصغاء المرء إلى نفسه شديد الصعوبة لأن هذا الفن يقتضي قدرة أخرى، نادرة في الإنسان الحديث: هي قدرة المرء على أن ينفرد بذاته، ونحن في الحقيقة قد أنشأنا رهاب الانفراد، ونفضل أتفه صحبة أو حتى أبغضها، وأكثر النشاطات خلوا ً من المعنى، على أن ننفرد بأنفسنا. ألأننا نعتقد أننا سنكون في صحبة بالغة السوء؟، أعتقد أن الخوف من أن نكون وحيدين مع من أنفسنا هو إلى حد ما شعور بالارتباك، يقارب الرعب من رؤية شخص معروف وغريب في وقت واحد، فنخاف ونوّلي الأدبار، فنُضيع بذلك فرصة الاستماع إلى ذواتنا، ونستمر في جهلنا لأنفسنا).

 

إن المعرفة النفسية ليست اختصاصًا قد نميل إليه أو لا نميل، بل هي ضرورة لنا جميعا ً مهما كانت اختصاصاتنا وتوجهاتنا، يقول فروم في كتابه فن الإصغاء: (إن هدف التحليل النفسي هو معرفة المرء ذاته. وهي حاجة إنسانية شديدة القدم، فمن اليونان إلى العصور الوسطى إلى العصور الحديثة تجدون أن معرفة المرء نفسه هي أساس معرفة العالم أو ـ كما يعبر مايستر إكارت عن ذلك ـ في صيغة قوية التأثير جدا ً: “إن سبيل المرء الوحيد إلى معرفة االله هو أن يعرف نفسه”.كيف للمرء أن يعرف العالم؟، كيف للمرء أن يعيش ويستجيب كما ينبغي إذا كانت تلك الأداة التي ستعمل، والتي ستقرر، مجهولة بالنسبة إلينا؟ نحن المرشد، والقائد لهذا الـ "أنا" الذي يتصرف على نحو ما لنعيش في العالم، ونكون القرارات، ونولي الأولويات، وتكون لنا قيم. فإذا كان هذا الـ "أنا"، هذا الفاعل الأساسي الذي يقرر ويفعل، لا نعرفه كما ينبغي فإنه ينجم عن ذلك أن كل أفعالنا، وكل قراراتنا قد تمت بحالة نصف عمياء أو بحالة نصف متيقّظة(.

 

ويقول فروم في توضيح رؤيته للإنسان: (الإنسان نظام ـ كالنظام البيئي أو السياسي، أو نظام الجسم أو الخلية، أو نظام المجتمع أو المنظمة، ولدى تحليل نظام "الإنسان" نفهم أننا نعالج نظام قوى وليس بنية ميكانيكية لجزئيات سلوكية، ولنظام الإنسان، كأي نظام، تماسك شديد في داخله، ويبدي مقاومة كبيرة للتغيّر، وفضلا ً عن ذلك، فإن تغيّر مفردة فيه يزعم أنها سبب مفردة أخرى غير مرغوب فيها لن يحدث أي تغيير في النظام في كليته …. والرأي عندي أن التحليل الاجتماعي والتحليل الشخصي لا يمكن أن ينفصلا، إنهما جزء من الرؤية النقدية لواقع الحياة الإنسانية … الفرد نظام أو بنية، وإذا حاولتم القيام بتغييرات طفيفة فإنكم سرعان ما تجدون أن هذه التغييرات ستزول بعد مدة من الزمن، لأنه لم يتغيّر شيء في الحقيقة وأنه لن يُحدث التغيّر إلا التحول الأساسي جدًا، في نظام الشخصية، ومن شأن ذلك أن يشمل تفكيرك، وعملك، وإحساسك، وتحركك، وكل شيء).

 

ويرى فروم أن على المحلل النفسي ألا يكتفي بدراسة علم النفس لفهم الإنسان حيث يقول: (إن منهج التدريب على التحليل النفسي يجب أن يتضمن دراسة التاريخ، وتاريخ الدين، والأسطوريات، والرمزية، والفلسفة، أي كل المنتجات الأساسية للذهن الإنساني)، وهو يوصي المحللين النفسيين بدراسة بعض النصوص الأدبية، كأعمال بلزاك ودوستويفسكي وكافكا، حيث سيجدون فيها من التبصّر العميق للإنسان ما لا يجدونه في الكتابات التحليلية النفسية. 

 

ويشير فروم أيضًا إلى أهمية تغير المرء سلوكه بعد معرفة نفسه: (أعتقد أنه من الضروري قبل كل شيء أن يغير المرء سلوكه، وألا  يقتصر على تحليل نفسه وإدراكه لها، وإذا اكتفى المرء بإدراك ذاته من دون أن يتّخذ في الحين نفسه الخطوات التي هي نتائج هذا الإدراك الجديد، يظل كل إدراكه عديم الجدوى، وبوسع المرء أن يحلل نفسه ويعرف كل شيء عنها سنوات كثيرة ولكن ذلك لن يكون مجديًا إذا ظل عقيمًا، إذا لم يقرن ذلك بتغييرات في ممارسته للحياة، إن ما يغير ما يصنعه الإنسان في نفسه أمر بالغ الدقة، ولا يمكن للمرء أن يصنع الكثير، ولكن على المرء ألا يكون مفرط الاحتراس، وأعتقد أنه من بالغ الأهمية في التحليل أن يبقى في الذهن على الدوام كيف يعيد الشخص إنتاج نفسه ويعيد إنتاج المكتشفات الجديدة باختبار المشاعر).

 

في كتابه أيضًا يشير فروم إلى النرجسية باعتبارها أساس العلل، والنرجسي هو: (الشخص الذي لا يكون الواقع عنده إلا الذي يجري ذاتيًا، فأفكاره وأحاسيسه وما إلى ذلك يراها حقيقية، وتمثّل الواقع، .. واقعه الوحيد تشكله تجاربه الداخلية، حيث يظل متمركزًا حول مشكلاته ويظل منفصلًا عن العالم، أي عن وصل نفسه بطريقة متجردة بكل ما حوله: بالناس، وبالأفكار، وبالطبيعة.. وجُلّنا نرجسيون إلى هذا الحد أو إلى ذلك، أي أننا منجذبون قليلًا أو كثيرًا إلى ألاّ نحسب حقيقيًا إلا ما هو في داخلنا، لا ما يشير إلى شخص آخر)، - واضطراب الشخصية النرجسية عبارة عن حالة مرَضية تؤثر على الصحة العقلية للمريض الذي ينتابه حينها شعور مبالغ فيه بأهميته، ويحتاج إلى الاهتمام والإطراء من الآخرين بشكل زائد ويسعى إلى ذلك، قد يفتقر الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب إلى القدرة على فهم مشاعر الآخرين أو الاهتمام بها، لكن وراء هذا القناع من الثقة المفرطة، فهم ليسوا متأكدين من تقديرهم لذاتهم ويمكن أن ينزعجوا بسهولة من أقل انتقاد -، إن فهم النرجسية هو أحد المفاتيح لفهم تصرفات الناس غير العقلية، ولفهم الإنسان لنفسه، وردود الفعل غير العقلية هي إلى حد كبير أساسها الظواهر النرجسية. 

 

وأن يكون المرء مهتما ً بمشكلاته حصرا ً ليس السبيل إلى معافاته وصيرورته إنسانا ً كامل الإنسانية، ولا يستطيع المرء أن يعيش بطريقة قوية ومفرحة ومستقلة إذا لم يكن يهتم إلا بنفسه، ولا يمكن للمرء أن يعيش على قدميه على الأرض، إلا إذا كانت هذه الأرض واسعة وغنية وارتبط المرء بالعالم المحيط به بطريقة منتجة ومهتمة، إن تركيز المرء على مشكلاته يجب ولابد أن يسير مع التوسيع والشديد المتزايدين لاهتمام المرء بالحياة.