الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الشعبوية السياسية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مصطلح الشعبوية هو من بين أهم الكلمات التي برزت في النقاشات السياسية في القرن الواحد والعشرين، وعلى الرغم من وجود فئه عريضة من السياسيين والصحافيين والمفكرين المهتمين بهذا المصطلح خاصة في الغرب، فإنه لا يوجد مفهوم محدد له، وقد كثر الجدال حول تحديده، ما يجعل هذا المفهوم متنازعًا فيه بما للكلمة من معنى، حيث يعرفها الباحثون بوصفها أيديولوجيا، وحركة، وعَرَضًا لأمر ما، إلى غير ذلك من الأوصاف.

 

ويرجع جزء من اللبس المحيط بهذه الظاهرة السياسية إلى أن معظم المنظمات والأشخاص الموصوفين بالشعبوية لا يصرحون بذلك، بل ونجد أن هذا اللقب يُلصق عادة بالآخرين للانتقاص من قدرهم، وبالتالي فلا نعجب من استعمال الأكاديميين والصحافيين مصطلح الشعبوية للإحالة إلى ظواهر سياسية هي في غاية الاختلاف، ولا سيما في غياب تحديد متفق عليه للشعبوية أو حالة أنموذجية يحتكم إليها.

 

هذا ويتفاعل خطاب الشعبوية السياسية مع حالة اجتماعية وسياسية تقوم على مزاج سياسي غاضب لجمهور فقد الثقة بالنظام والأحزاب السياسية القائمة والنخب الحاكمة، فهو يوظف بوصفة استراتيجية سياسية في مخاطبة هذا المزاج، هادفة إلى إحداث تغيير سياسي عبر الوصول إلى الحكم. ويقدم حملة هذا الخطاب أنفسهم بوصفهم الممثلين الحقيقيين للشعب، وباعتبار ما عداهم ممثلين زائفين للشعب أو أعداء له، وغالبًا يعتمد كل خطاب يهدف إلى تحقيق مقبولية شعبية المبالغة والكذب وشيطنة الخصم والتشنيع عليه، وتخاطب عاطفة الناس وليس عقولهم، لاستثارة تعاطف وتضامن مع أصحاب هذا الخطاب، خوفٍ ونفور وكراهية للنظم والنخبة الحاكمة، بدون أن تقدم أي بديل حقيقي للوضع الراهن، أو برامج وسياسات موضوعية وقابلة للتنفيذ لحل المشاكل التي يعانيها الشعب، إنها تردد المشاكل التي يعانيها الناس فقط وبأداء درامي يغازل مشاعره لكنها لا تقدم أية حلول لها.

 

من المفاهيم الجوهرية التي يعتمد عليها الأيديولوجيا الشعبوية هي "الإرادة العامة"، ويشير استخدام السياسيين الشعبويين لهذا التصور إلى فهم خاص للسياسة، ويرتبط هذا الفهم ارتباطًا وثيقًا بعمل الفيلسوف الشهير جان – جاك روسو الذي يميز " الإرادة العامة" من "إرادة الجميع". حيث يقصد بالإرادة العامة إمكان اجتماع أفراد الشعب من أجل تكوين مجتمع وسَنّ تشريعات تخدم مصالحة المشتركة، وأما إرادة الجميع فتعني مجموعة محددة من المصالح في فترة معينة من الزمن، ويعزز التمييز الشعبوي الشعب الصالح من النخبة الفاسدة فكرة وجود إرادة عامة.

إن مهمة السياسيين بناء على ذلك تصير دقيقة وواضحة جدًا، إذ يجب عليهم كما قالت المنظرة السياسية البريطانية مارغريت كانوفان أن يكونوا من طينة المثقفين الواعين كفاية ليحددوا الإرادة العامة للشعب، وكاريزميين بقدر يسمح لهم بتحويل المواطنين من أفراد إلى مجتمع منسجم يمكنه تحقيق هذه الإرادة)، وقد قدم تشافيز مثالًا لهذا الفهم الشعبوي للإرادة العامة في خطابه الافتتاحي عام ٢٠٠٧ حين قال: (لا يوجد شيء أكثر تجسيدًا للعقيدة الشعبوية من استشارة الأمة برمتها في النقاط الرئيسية التي تنبني عليه الحكومة والقوانين الأساسية والقضاء العالي، فالأفراد كلهم عرضة للزلل والإغراء إلا الشعب، لأنه يملك درجة عالية من الوعي بمصالحه الخاصة، ويدرك مدى استقلاليته، ولذلك فقراراته كلها صائبة، ولا يمكن أيًا كان أن يفسده أو أن يهدده ).

 

وتكمن مشكلة الخطاب الشعبوي في الأغراض التي يخدمها، فهو إما أن يكون قوة إيجابية تسعى إلى تعبئة العامة من أجل تطوير المجتمع وإصلاحه سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وإما أن يكون الغرض منه توجيه الغضب ضد المؤسسات الديمقراطية وليس ضد السياسات فحسب، لدرجة قد تحوّل هذا الأسلوب إلي ألية تزيد منسوب الكراهية وشيطنة الآخر بل وتقسيم المجتمع إلى "نحن" متخيلة يدّعي المنتمون إليها أنها الشعب من جهة، و"هم" متخيلة من أعداء الشعب، ومؤلفة من النخب والسياسيين والمثقفين والأحزاب عمومًا، وهنا لا تعود الظاهرة مجرد استراتيجية في العمل السياسي بل تدخل في مجال الأيديولوجيا، بل وقد تصبح ظاهرة معادية للديمقراطية. فكما أنه لا يمكن تصور المشاركة السياسية للشعب من دون الحريات، كذلك لا يمكن تصور ديمقراطية مباشرة غير تمثيلية على مستوى الدولة ذاتها، ولا يمكن تصور ديمقراطية تمثيلية من دون نخب تؤلف أجسامًا ومؤسسات وسيطة مع المجتمع من جهة، ومؤسسات أخرى قضائية ورقابية خارج المؤسسات التمثيلية من جهة أخرى.

 

تفصل الديمقراطية الليبرالية بين سيادة الشعب وتمثيله، بمعنى أن الشعب مصدر شرعية النظام وهو يمارس سيادته في الانتخابات، لكن تمثيله عملية منفصلة إذ تقوم بها مؤسسات وسياسيون محترفون. وهذه المسافة هي عند جوزف شومبيتر مسافة ضرورية كي يقوم السياسيون بعملهم، صحيح أن هذه المسافة تنتج سياسيين محترفين، وقد ينشئ عنها خطر اغتراب الناخبين عن حكم القلة المنتخبة، لكنها أيضًا تخلق فضاء يسمح بتوسط الأحزاب الناضجة، والمؤسسات المدنية المستقلة، ويمكّن من التقييم والحوار والمناقشة، وهناك رقابة متبادلة، ومؤسسات تراقب المنتخبين مثل المحاكم والإعلام وأجهزة الرقابة وغيرها.

 

إن انتشار الشعبوية السياسية يخلق أزمة للديمقراطية تتمثل هذه الأزمة بثلاثة توترات:

التوتر الأهم هو بين: (البعد الديمقراطي المتعلق بالمشاركة الشعبية القائمة على افتراض المساواة الأخلاقية بين البشر، وافتراض المساوة في القدرة على تمييز مصلحتهم، التي تقوم على المساواة السياسية بينهم، ويقوم عليها أيضًا حقهم في تقرير مصيرهم)، (والبعد الليبرالي الذي يقوم على مبدأ الحرية المتمثلة في الحقوق والحريات المدنية، وصون حرية الإنسان وكرامته وملكيته الخاصة من تعسف الدولة، ويتعلق بتحديد سلطات الدولة).

o      التوتر الثاني داخل البعد الديمقراطي ذاته بين: (فكرة حكم الشعب لذاته من جهة)، (وضرورة تمثيله في المجتمعات الكبيرة والمركبة عبر قوى سياسية منظمة ونخب سياسية تتولى المهمات المعقدة لإدارة الدولة عبر جهازها البيروقراطي من جهة أخرى).

o      التوتر الثالث بين: (مبدأ التمثيل بالانتخابات الذي يقود إلى اتخاذ قرارات بأغلبية ممثلي الشعب المنتخبين، أو بأصوات ممثلي الأغلبية من جهة)، (ووجود قوى ومؤسسات غير منتخبة ذات تأثير في صنع القرار أو تعديله، وحتى عرقلته مثل الجهاز القضائي والأجهزة البيروقراطية المختلفة للدولة، من جهة أخرى).

 

         لا تؤدي هذه التوترات تلقائيًا وبالضرورة إلى غضب قطاعات اجتماعية أو إلى نشؤ خطاب شعبوى، فغالبًا ما لا يفكر الناس في هذه التوترات، ولكن ما يسمح بالخطاب الشعبوي هو توترات وصراعات اجتماعية اقتصادية أخرى قائمة في الدولة مثل: التفاوت بين المساواة الاجتماعية والمساواة السياسية، وفجوات توزيع الدخل وتشوهه، إشكالية الحرية في غياب المساواة الاجتماعية، انتشار الفساد في النخب الحاكمة، غياب الشفافية من جانب الطبقة الحاكمة تجاه القضايا والتحديات والأحداث المختلفة، وتعاليهم على الرأي العام، وكذبهم على الشعب، ومسألة صراع الهويات داخل المجتمع وتفاوت الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتمتع بها أصحاب كل هوية، هذه التناقضات والصراعات وغيرها هي مصدر التهميش ووجود فئات متضررة وأخرى مستفيدة من النظام، هنا ينشئ إيديولوجيا الخطاب الشعبوي ليترجم الغضب الاجتماعي والشعبي تجاه المؤسسات والنخب الحاكمة. 

 

         وقد حظر أرسطو من مخاطر الشعبوية التي يسميها "ديماجوجيا"، والتي تستخدم مظان الناس أنهم إذا كانوا متساوين في الحرية فيجب أن يكونوا متساوين على وجه الإطلاق، ما يعني بطلان أي قيوم على "سلطة الشعب"، ورفض التمايز حتى على أسس الأهلية والكفاءة، وأي تراتبية تنظيمية في الدولة.