الأربعاء 06 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة القبطية

ترك خلفه كنيسة قوية وآداب رهبانية لا تنطفئ.. مائة عام على ميلاد البابا شنودة الثالث

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هناك من يولدون ويرحلون دون أن يكون لوجودهم معنى، وهناك من يولدون ليضيفوا إلى الوجود معنى. والبابا شنودة ولد وعاش ليكون منارة وقيمة  لأجيال عاصرته وأجيال ستأتى من بعده. فقد كان حضوره نورًا، وأفكاره طريقًا، حتى صوته كان يحمل دفئًا عجيبًا. 

قال عنه الموسيقار هاني شنودة: "حديث قداسة البابا شنودة وكلامه العادي يطرب الآذان... تشعر وأنت تستمع إليه أن كلماته تسري في سمع الناس إلى قلوبهم كأنها سيمفونية تشبه تغريد البلابل".

تسعة وثمانون عامًا عاشها معنا كلها آلام ومجد، لقد كان قويًا رغم القهر والظلم. ورغم كراهية البعض وخيانة البعض إلا إنه كان يعامل الجميع بكل الحب، فقد تتلمذنا على تعاليمه سنوات، وبعدما صارت لي علاقة شخصية معه صارت حياته أمامي أعظم عظة.

ولد في قرية سلام بمحافظة أسيوط عام 1923م من عائلة غنية ميسورة الحال، وتوفت والدته بعد ولاته وقام برعايته شقيقه الأكبر روفائيل الذي كان يعمل بوزارة المالية وأخذه حيث كان يعمل وتنقل بين المدن. ثم في عام 1938م انتقل إلى القاهرة حيث عمل شقيقه الأكبر رئيسا اقسم بوزارة المالية، وسكنوا في شارع حسن باشا حلمي بشبرا والتحق بمدرسة الإيمان الثانوية بشبرا.

ويحكي البابا إنه وهو صغيرًا كان ينظر من النافذة فيرى يوميًا شاب رث الثياب يبحث في القمامة عن أشياء يأكلها فشعر بألم في داخله وأصبح يوميًا يضع كيسًا به طعام وفاكهة قبل ميعاد مجيء هذا الشاب، وكان يقول لنا في أحاديثه الشخصية ضعوا في أكياس القمامة أكياس بها طعام محكمة الغلق علها تكون طعامًا لفقراء عابرين.

والتحق بكلية الآداب (جامعة فاروق الأول) قسم آثار، وفي السنة الثالثة التحق بالكلية الإكليريكية بجانب دراسته وتخرج من كلية الآداب بتقدير امتياز. والتحق بكلية ضباط الاحتياط وتخرج عام 1948م ضابط في سلاح المشاة. وكان قد انضم إلى الوفد وأحبه الزعيم مكرم عبيد، وكان يلقي الشعر في المؤتمرات الوفدية حتى إنه أُطلق عليه شاعر الكتلة الوفدية. ثم عمل مدرسًا ثم استقال وعمل في التدريس بالكلية الإكليريكية.

وفي 18 يوليو عام 1954م استقال والتحق بدير السريان ورسم راهبًا باسم أنطونيوس السرياني. ثم اختار أن يعيش في مغارة في الجبل متوحدًا للصلاة عام 1959م حتى استدعاه البابا كيرلس السادس ليكون سكرتيرًا له ثم أسقفًا للكرازة والمعاهد الدينية عام 1962م باسم الأنبا شنودة. ومنذ ذلك الحين وهو يلقي عظاته على الشعب التي كانت تحضر بالآلاف حتى أن محطة الأتوبيس كان ينادى عليها محطة الأنبا شنودة.

وبعد رحيل البابا كيرلس اختارته العناية الإلهية لكي يكون البابا شنودة عام 1971م. وبرغم انشغاله بالكنيسة والخدمة إلا أن الوطن كان دائمًا في دائرة اهتمامه فقد قال: "إن مصر ليست وطنًا نعيش فيه، ولكنها وطن يعيش فينا". ورددها عنه مكرم عبيد أيضًا. ولم يكن فقط الوطن هو ما يشغله، بل قضايا العالم والظلم الواقع على الفلسطينيين فبعد شهر من اعتلائه الكرسي المرقسي في ديسمبر عام 1971م ألقى محاضرة في نقابة الصحفيين عن "المسيحية وإسرائيل" ورد على أسطورة إنهم شعب اللـه المختار. 

وحين زار أمريكا وقابل الرئيس جيمي كارتر سأل البابا وقال له: "ما رأيك في مقولة أن إسرائيل شعب اللـه المختار؟"، فرد البابا وقال: "إذا كانوا هم هكذا فأنا وأنت من نكون؟". وظل يدافع عن هذه القضية حتى إنه رفض أن يدخل القدس إلا مع أخوتنا المسلمين وكان هذا أحد أسباب الخلاف مع الرئيس السادات.

وكانت وطنية البابا درسًا لنا جميعًا في حب مصر فقد ذهب إلى الجبهة عام 1972م ليسند الجيش قبل الحرب وفي أثناء الحرب زار المستشفيات وقدم مساعدات وأدوية لها. ثم زار الجبهة مرة أخرى وقال في حرب أكتوبر: "كان الجيش الثاني بقيادة أحمد بدوي والجيش الثالث بقيادة فؤاد عزيز غالي يحاربان لأجل مصر دون فرق بين مسلم ومسيحي".

ورغم وطنيته وحبه الكبير لوطنه مصر حدث صدام مع الرئيس السادات بعد أحداث إرهابية كثيرة وخاصة ما حدث في منطقة الزاوية الحمراء، فاجتمع المجمع المقدس عام 1980م وتقرر عدم الاحتفال بعيد القيامة واستقبال التهاني اعتراضًا على هذه الأحداث. وتصاعدت الأحداث حتى وصلت إلى قرارات سبتمبر عام 1981م حين قرر الرئيس السادات بتحديد إقامة البابا شنودة بدير أنبا بيشوي بوادي النطرون وسحب قرار الدولة بالاعتراف به وتعيين لجنة خماسية من أساقفة لإدارة الكنيسة. ثم ألغيت هذه القرارات وعاد البابا عام 1985م.

وبرغم هذا الظلم الذي وقع عليه إلا أن مواقفه الوطنية كانت كما هي فقد رفض أن يؤسس حزبًا للأقباط عام 1989م وقال: "من أجل الوطن وحرصًا على وحدته أرفض قيام أي حزب مسيحي". وقال أيضًا: "نحن مصريون جزء من شعب مصر ولا نحب أن نعتبر أنفسنا أقلية. فحتى توجد وحدة وطنية يجب ألا نقول مسيحي ومسلم، بل نقول مصري". كما رفض أي تدخل أجنبي في شئون الأقباط.

وكان إنتاجه الأدبي المسيحي كبير جدًا فكتب واحد وتسعون كتابًا، وكرمته جامعات العالم فحصل على سبع دكتوراة فخرية من جامعات أمريكية وأوروبية وجائزة اليونيسكو للتسامح الديني عام 2000م.

وقال عنه الكاتب الكبير إبراهيم الورداني: "ملحمة البابا شنودة ما أروعها، ما أبدعها، إننا نكتشف فيها زعيمًا مصريًا من صلب الشعب يروض التاريخ المصري ويمسح على الجبين القومي بأوراق العود والزهر والعطر والحب والتسامح".

ورحل البابا شنودة عن عالمنا في مارس 2012م ولكنه ظل صوته وروحه وحياته منارة لا تنطفئ أبدًا.