يعرف مارتن ميدوز الانضباط الذاتي بأنه يعني: (أن تعيش حياتك بالطريقة الصعبة - مقاومة الإغراءات والإشباع الفوري - من أجل الحصول على مكافآت أكبر وأفضل في المستقبل)، ويقول باتريك إدبلاد: يتطلب منك النجاح على نحو دائم تقريباً أن تترك أمراً سهلاً لصالح القيام بأمر صعب)، من المؤكد أنه من الأسهل أن تجنب نفسك جميع أنواع المتاعب، وتنغمس وقتما تشاء في الملذات المختلفة، ولكن في النهاية، كل ما تحصل عليه من هذا النهج هو متعة عابرة الآن على حساب مستقبلك، والذي كان من الممكن أن يكون أفضل بكثير إذا عشت حياتك بطريقة مختلفة، ما يبدو وكأنه قرار غير مهم اليوم يمكن أن يكون له تأثير كبير ودائم على مستقبلك.
عندما يواجه الشخص الضعيف تحدّيًا ما يختار الانسحاب على الفور وعدم المواجهة، هذا الشخص لن يحقق أي شيء جوهري في الحياة إذا كانت قيمته الأساسية هي الشعور بالراحة، كيف سيدير هذا الشخص أزمة أو مشكلة يجب أن يواجهها؟، حتى المشاكل غير المهمة نسبيًا يمكن أن تصبح عقبة لا يمكن التغلب عليها بالنسبة لشخص يعيش حياة محمية ويتجنب دائمًا ما هو صعب أو بغيض. قارن ذلك مع الشخص القوي الذي يجعل حياته طواعية أكثر صعوبة، إنه يبحث ويرحب بالتحديات باعتبارها فرصًا للنمو، فكل بلاء وصعوبة تقويه، بحيث يطغى عليه عدد أقل وأقل من الصعوبات في الحياة، يومًا بعد يوم يقوم بتحصين نفسه ضد المشاكل، وعندما توجه له الحياة ضربة غير متوقعة فإنه يكون مستعد للتعامل معها، لأنه وبفضل حياته بالطريقة الصعبة مدرب ومستعد دائمًا لمواجهة المصاعب.
إن الرضوخ لإغراءاتك كلما شعرت أنها تظهر يشبه التخلي عن إنسانيتك بطريقة ما وذلك لأن قوة الإرادة وسيادة العقل هي التي تفصلنا وتميزنا عن سائر الحيوانات - القدرة على كبح دوافعنا ومقاومة الإغراء -، الإنسان الحقيقي لديه قدرة لاتخاذ قرارات تستند إلى التفكير العقلاني، وليس على الغرائز وحدها، ولذلك يجب احتضان إنسانيتك من خلال تقوية "عضلة قوة الإرادة" الخاصة بك، بدلاً من الاستسلام للجزء الأكثر بدائية والأقل فائدة لأهدافك من الدماغ، قد توفر غرائزك الأكثر بدائية راحة مؤقتة لكنها نادرًا ما تكون جيدة على المدى الطويل. وعليك قبل أن تشكو من العبودية الخارجية أن تتأكد من أنك لست عبدًا لنفسك، انظر في داخلك ستجد هناك: أفكار عبودية، رغبات عبودية، عادات عبودية، في حين أن الظروف الخارجية يمكن أن تؤثر عليك، لكن في الحقيقة أنت المسئول إذا كنت تتحكم في حياتك أم لا، تمامًا كما قال جيمس ألن – "James Allen": (عندما تحقق السيادة الذاتية لن يكون لأحد ولا شيء القدرة على استعبادك)، وبالتالي في المرة القادمة التي تلوم فيها عاملاً خارجيًا على افتقارك إلى الانضباط الذاتي فكر مرة أخرى فأنت المسئول.
لا أحد - بما في ذلك أكبر عباقرة العالم - كان أو سيكون أبدًا خارقًا للبشر، أو أفضل منهم بلا حدود في جميع الجوانب، من السهل أن تنسى هذه الحقيقة عندما تنظر إلى إنجازات الأشخاص الذين يغيرون العالم من حولك، لكن تأكد أن وراء الكواليس يكافح الجميع في بعض مجالات حياتهم، لا يعني نجاح الإنسان وإنجازاته أنه لا يعاني مما يعاني منه جميع البشر عند التعامل مع الذات، إنه يتعامل مع نفس المشاكل مثل أي شخص آخر، والفرق الوحيد هو أنه اكتشف كيفية التعامل مع بعضها بشكل أكثر فعالية، تأكد من أنه قد حصل على نصيبه العادل من الإخفاقات، ووجد نفسه غير قادر على مقاومة بعض الإغراءات، وعرّض بعض أهدافه ونجاحاته الاستراتيجية للخطر لأنه استسلم لجاذبية الإشباع الفوري في بعض الأوقات، فهو بشر وهذه هي الطبيعة الإنسانية، الأشخاص الذين تعتبرهم ناجحين للغاية لا يختلفون عنك، كان لدى العديد منهم في الماضي قوة إرادة أقل مما تظهره الآن، وقد يكون الكثير منهم أكثر انضباطًا منك في جانب واحد، لكنهم أقل انضباطًا في جوانب أخرى، أن تصبح شخصًا منضبط هو أمر في متناول الجميع، فلست بحاجة إلى الفوز باليانصيب الجيني لكي تكون منضبط ومتحكم في ذاتك، ولن تحقق أنت ولا أي شخص آخر السيادة الذاتية دائمًا في كل جانب من جوانب الحياة، تقبل ذلك وتقبل معه نفسك أيضًا.
هناك أمور تؤثر على قدرة الإنسان على الانضباط والإنجاز، ويأتي في مقدمتها الفقر أو توتر الإجهاد المالي والاقتصادي والذي يقلل من قدرته على تأخير الإشباع أو تحقيق الانضباط الذاتي، فعلى عكس المتوقع يجد الفقراء صعوبة أكبر في مقاومة الإغراءات، إنهم يتعثرون في حلقة مفرغة - لا يمكنهم الهروب من الفقر لأنه يفرض ضغوطًا عقلية مستمرة عليهم، مما يقودهم بعد ذلك إلى اتخاذ قرارات سيئة - ليس فقط القرارات المالية، ولكن أيضًا تلك المتعلقة بصحتهم، وعلاقتهم، والمستقبل العام. الفقر يخلق رؤية للنفقة مشوهة حيث تفكير المرء مُنصبًّا على الوفاء بالاحتياجات الآنية بأي ثمن، حتى لو اضطر للاستدانة بفائدة كبيرة تزيد من أعبائه المستقبلية، وهكذا تدور عجلة الفقر دون توقُّف، يقول إلدار شافير أستاذ علم السلوك والسياسة العامة وأستاذ مشارك في معهد العلوم الاجتماعية الكمية بجامعة هارفارد: (إن العيش في حالة فقر يجعلك في قلق دائم في محاولاتك للتوفيق بين الموارد القليلة وكيفية الوفاء باحتياجاتك، سيجعلك هذا تنسى أموراً أخرى فلديك مساحة محدودة للاهتمام بها، إن مشكلة ما يخلقها الفقر تستدعي أخرى، وهذه الأخرى بدورها تسهم في مشكلة جديدة وتؤدي في النهاية إلى سلسلة لا تنتهي من النتائج المدمرة، إنه يدمر الوظائف الاجتماعية والانفعالية والمعرفية لدى الأشخاص، ويحدث تشوهات معرفية تفرض نفسها عند اتخاذ القرارات حيث تتخذ القرارات دائماً تحت إلحاح الحاجة، ويتسبب في قلق دائم مما يؤدي إلى الميل لاتخاذ قرارات مالية مكلفة تزيد الوضع سوء). ذكرت دراسة نشرتها BBC لمجموعة من الأكاديميين بخصوص تأثير الفقر على أدمغتنا: (إن الأطباق الكبيرة للأقمار الصناعية فوق أسطح الأكواخ والمنازل المتواضعة، الصورة الشهيرة التي نتخذها مثالاً على القرارات السيئة للفقراء، ليست هي سبب الفقر، وإنما نتيجة له، الفقراء لا يُسيئون إدارة مواردهم، لكن الفقر يُقلِّل من قدرتهم على إدارتها بشكل أفضل بسبب ندرة الموارد التي تلوح دائماً). فبغض النظر عما يقولونه عن المال الذي لا يجلب السعادة، فإنه يعني الفرق بين الحياة الخالية من الضغوط والتوتر نسبياً، وبين سحق النفس والخوف عندما لا يمكنك تغطية نفقات عاجلة ومهمة. إن الفقر يُغذِّي نفسه، ويرجع ذلك إلى أن العبء النفسي للندرة -أي ندرة الفرص المتاحة التي تُغلِّف حياة الفقراء - يؤثر في الدماغ البشري، بحيث يؤدي إلى ضعف الإدراك، مما يقود الفقير في نهاية المطاف إلى اتخاذ أسوأ القرارات، وبالتالي الاستمرار في دائرة من الفقر الذي يُعيد إنتاج نفسه.
وقد وصف تقرير التنمية العالمي للبنك الدولي للعاميْن (٢٠٠٠، ٢٠٠١) الفقر كما يلي: (إن الفقراء يحيون حياة خالية من الحريات الأساسية كحرية التصرف، وحرية اتخاذ القرار، وهي الحرية التي يعتبرها الأشخاص الأكثر ثراء أمراً بديهيًّا، وكثيراً ما ينقص هؤلاء الفقراء الغذاء المناسب والمأوى والتعليم والصحة، وهذه الحاجة تحول دون تمكنهم من ممارسة حياة كريمة، مما يجعلهم في كثير من الأحيان عرضة للإصابة بالأمراض وللهزات الاقتصادية والكوارث الطبيعية، بالإضافة إلى أنهم كثيراً ما يصبحون ضحايا لطغيان المؤسسات الحكومية والاجتماعية، ولا يملكون من القوة أو النفوذ ما يجعلهم يستطيعون التأثير على القرارات الهامة التي تؤثر تأثيراً مباشراً على حياتهم). لذلك إن مكافحة الفقر تأتي دائماً في مقدمة أولويات الدول التي تسعى حقيقة إلى بناء الإنسان وتحقيق تنمية ونهضة مستدامة، وإن أكبر جريمة ترتكبها أي حكومة هو تبني سياسات تؤدي إلى إغراق الشعب في دائرة الفقر.