تحتفل مصر بالذكري الحادية والسبعين لثورة ٢٣ يوليو، والتي ارتبطت مع رئاسة الكرسي الباباوي للبابا يوساب، البطريرك الـ١١٥، وكان لدي الأقباط حالة من الخوف والتوجس من عدم وجود ضابط مسيحي في قيادة حركة الضباط الأحرار.
وصدرت أثناء بدايات الثورة، عدة قوانين، منها: التأميم، والإصلاح الزراعي، مما تسبب في انزعاج وخسائر مالية لنخبة وأثرياء الأقباط، ووقتها كانت صحيفة "المصري" الوفدية هي لسان حال الأقباط، وركزت مقالاتها على الأضرار الفادحة، حسب وصفها، لما لحق بالأقباط؛ وطالبت بالعدالة والمساواة.
وعلى منهجها سارت صحيفة"الفداء"، وهذا بالطبع لم يمنع من وجود كتاب أقباط أشادوا بالإصلاح القادم عبر ثورة ٢٣ يوليو، كان في مقدمتهم الكاتب سلامة موسى، والقمص سرجيوس أحد زعماء ثورة ١٩ أيضًا، ورغم كبر سنه فقد دعم بقوة ٢٣ يوليو؛ مطالبًا في الوقت نفسه بالتكاتف، لإنهاء الاحتلال الإنجليزي.
ثورة ٢٣ يوليو ورسائل الطمأنينة
أدرك قيادات الضباط الأحرار، هواجس ومخاوف الأقباط من المستقبل، فبدأت رحلات منتظمة إلى الإبراشيات؛ وخلالها تم التأكيد على أن الأقباط جزء لا يتجزأ من الثورة وحركة الإصلاح، وقاد اللواء محمد نجيب، رئيس الجمهورية، هذه الزيارات، وتم دعوة البابا يوساب إلى حضور مناسبات عديدة، وظهر بجانبه أثناء الخطابات الثورية والشعبية.
وأرسلت الرئاسة ومجلس قيادة الثورة، تهنئة للأقباط بعيد الميلاد سنة ١٩٥٣، ووافق مجلس قيادة الثورة، على طلب قدمه البابا يوساب في ذكرى الثورة الأولى، على منح العاملين الأقباط في الدولة، خمسة أيام إجازة خاصة بأعيادهم، وتم اعتماد الإجازة رسميًا لعيد الميلاد، والقيامة، والغطاس، وأحد الشعانين، وخميس العهد.
الصراع الديمقراطى والكنيسة القبطية وثورة يوليو
ورصدنا، في كتابنا"الأقباط ٢٠٠٠ عام بين المشاركة والعزلة"، إشكالية الصراع داخل الكنيسة، حيث كانت هناك خمسة أجيال لا تعرف أن الصراع الديمقراطي داخل الكنيسة يكاد يكون السر الثامن، وأنه منذ عام ١٨٧٢، حينما تأسس المجلس الملي العام، بفرمان من البابا العالي، واختيار بطرس باشا غالي الكبير وكيلا له وأدى ذلك لصراعات، نتج عنها نفي الأنبا كيرلس الخامس، إلى دير البراموس عام ١٨٩١م، بإيعاز من بطرس باشا، وجُمِّدَ المجلس الملي أربع مرات، في عصور البطاركة: يوساب وكيرلس السادس وشنودة الثالث
كان لثوار يوليو والرئيس جمال عبدالناصر، دور في حسم اختيار البطريرك عبر القرعة الهيكلية(وكان ذلك عبر رمزي استينو، وزير التموين حينذاك الذي كان صلة الربط بين جمال عبدالناصر والمجمع المقدس).بالطبع يعود ذلك إلى أنه لا يمكن أن يأتي رئيس الدولة "بالاستفتاء"، والبطريرك "بالانتخاب". كما نصت اللائحة على أن تحدد سن الأربعين وأن يكون قد مر على رهبنة المرشح خمسة عشر عامًا(رغم أن كل مجلس قيادة الثورة ما عدا محمد نجيب كانوا دون الأربعين).
وتردد وقتها أن ذلك تم لاستبعاد شباب ثوار الرهبان، وتحديدًا الراهب أنطونيوس السرياني، البابا شنودة الثالث فيما بعد، والقمص مكاري السرياني، والأنبا صموئيل، أسقف الخدمات فيما بعد، والراهب متى المسكين.
واشترطت أيضًا تصويت الصحفيين الأقباط بالصحف اليومية، نظرًا لأن الصحفيين المعارضين كانوا بالصحف الأسبوعية، وكان من اللافت للنظر فيما بعد، أن البابا شنودة الثالث، كتب مقالًا عارض فيه اللائحة، وبعد تجليسه وعد بتغييرها ولم يحدث، واستمر الصراع حول اختيار ٢٣ بطريركيًا، تراوحت فيها خلو المنصب البابوي، ما بين سنة إلى ثلاث سنوات، وبلغ عدد القضايا التي رفعت ٢٢ قضية.
عزل البابا يوساب وثورة ٢٣ يوليو
وقامت جماعة تسمى نفسها"الأمة القبطية"، والتي تزعمها إبراهيم هلال، وهو محام شاب، باختطاف البابا يوساب، البطريرك الـ١١٥، نتاج تجاوزات خادمه ملك، وتدخل مجلس قيادة الثورة، وأعاد البابا يوساب، الذي توفي بعد ذلك بعام، داخل المستشفي القبطي، وأرجع بعضُ الباحثين تجرأ جماعة الأمة القبطية، إلى أنه كان محسوبًا على الرئيس محمد نجيب، الذي عاني من نفس المضايقات، في مفارقة تاريخية.
وقالوا إن الدولة لم تتدخل سريعًا لعدم رغبتها في التدخل في شئون الكنيسة، خاصةً وأنه يوجد آباء وأساقفة، دعموا إزاحة البابا يوساب، ووصفوا ذلك بالمصلحة العليا للكنيسة القبطية.
ولكن في ٥ سبتمبر ١٩٥٥؛ اجتمع المجمع المقدس، وأصدر قرارًا بإعفاء الأنبا يوساب الثاني من منصبه، وإبعاده عن مقر الكرازة المرقسية في القاهرة والإسكندرية، وتشكيل لجنة ثلاثية لإدارة الكنيسة، وبرر المجمع قراره بإعفاء البطريرك، بأسباب تتعلق بتبديد أموال الكنيسة، واتخاذ البطريرك للأشرار مستشارين له، وأخطر المجمع المقدس، المجلس الملي، بالقرار، فوافق على الفور، وأبعد البطريرك إلى الدير المحرق، في ٢٤ سبتمبر ١٩٥٦.
وبعد إلغاء الأحكام العرفية؛ حاول بعض رجال الاكليروس، إعادة البطريرك إلى القاهرة، إلا أن المجلس الملي، أقنع الحكومة بأن عودة البطريرك لكرسيه تخالف القرار الرسمي الصادر بوقفه، وتخل بالأمن العام، وأغلقت أبواب المقر البطريركي، في وجه البابا يوساب، ونلاحظ مما سبق، أنه لا يوجد تدخل من مجلس قيادة الثورة، والرئيس جمال عبد الناصر، خليفة الرئيس محمد نجيب، في قصة عزل البابا يوساب.
الأقباط والكنيسة وتغييرات ١٩٥٢: ١٩٧٠
رصد الكتابُ مراحل مهمة، بدأت في مرحلة ١٩٥٢، وحتى عام ١٩٧٠، والمتابع لتطور الأحداث في هذه الحقبة، يستطيع أن يصفها بالفترة الذهبية لعلاقة الوطن بالكنيسة والأقباط، رغم أن مشاركة الأقباط في تنظيم الضباط الأحرار، كانت لا تزيد عن ضابط واحد، وهو الرائد شكري فهمي جندي، ينتمي إلى الصف الثاني في حركة الضباط.
ويفسر الكتاب، ضآلة التواجد القبطي، بأن الجيش كان خاضعًا للنفوذ التقليدي للملك، ولم يلاحظ أنه كان لحزب الوفد، وهو مرتكز الحركة السياسية للأقباط آنذاك، أي نفوذ مؤثر على المؤسسة العسكرية، حتى في فترات حكمه القليلة المتباعدة، جاء تنظيم الضباط الأحرار، على شاكلة المؤسسة التي انبثق منها.
ويرصد الكتاب تغيرات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، التي أحدثتها الثورة في الهيكل الاجتماعي، وتناقض الشعور القبطي تجاه الثورة، بعد تحديد ملكية الأرض الزراعية، وتمصير المصالح الأجنبية، وتأميم الرأسمالية المصرية، وبدء الإجراءات الاشتراكية.
وبرز على السطح شعوران متناقضان؛ هما: شعور الأغلبية القبطية بالمساواة في فرص التعليم والتوظيف، وذلك عبر مجانية التعليم، ومكتب التنسيق بالجامعات، وتعيين الخريجين عبر القوى العاملة، وفي صراع الرئيس عبدالناصر مع الإخوان، والذي ساند فيه الأقباط الرئيس ناصر، وأصدر عبد الناصر قرارين؛ بجعل مادة الدين مادة أساسية، وإعادة تنظيم جامعة الأزهر بشكل عصري، إلا إنها صارت مقصورة على الطلاب المسلمين، رغم أن عبدالناصر كان يستهدف في إطار خطته، تحجيم الأزهر وتحديثه، إلا أن القرارين أديا إلى تديين المسألة التعليمية من وجهة نظر الأقباط.
وفي الاقتصاد؛ تضرر الأقباط من قرارات التأميم، ووصلت خسارتهم إلى نسبة كبيرة:
عكست قرارات يوليو الاشتراكية ١٩٦١ حجم الثروة القبطية من مطلع القرن حتي تأميمها ومصادرتها هي كالتالي
٧٥٪ من قطاع النقل والمواصلات الداخلية
٤٤٪ من الصناعة
٥١ ٪ من البنوك
٣٤٪ من الأراضي الزراعية
أي ما يبلغ وفق إحصاء بعض الاقتصاديين مثل تقرير للراحل ماجد عطية أن ٢٠٪ من إجمالي الثروة القومية.
المشاركة القبطية وثورة ٢٣يوليو
جاء التمثيل القبطي عبر الجهاز التنفيذي والبرلمان، معتمدا على أهل الثقة، وجاءت مشاركة الأقباط ضعيفة، خاصة في الوزارات التي كانت هامشية، مثل التموين، ومع اختفاء الأحزاب، لم يعد ممكنا للأقباط أن يترشحوا في الانتخابات العامة، خاصة مع اختفاء حزب الوفد.
وفي برلمان ١٩٥٧؛ لم ينجح سوى قبطي واحد بشبرا، ورصد الدكتور ميلاد حنا، ابتكار الرئيس عبدالناصر، أسلوب غلق دوائر، اختارها الأمن بدقة، وكان المرشح القبطي لا بد أن يحصل على موافقة الاتحاد القومي، وكانت الدوائر يتنافس فيها المرشحون الأقباط فقط، مع العلم أن هذا الحل أو التعيين رفضه الأقباط، قبل الثورة بـ٣٠ عاما ومع الوقت فشلت التجربة، التي ابتكرها الرئيس جمال عبدالناصر، ولجأت الثورة إلى التعيين.
الكنيسة تدعم الثورة وتقاوم الهزيمة
واستمرت علاقة الكنيسة المصرية بالثورة، والقائمين عليها، خاصةً في الفترة من ١٩٥٢: ١٩٧٠، وحتي حرب أكتوبر العظيمة، واتحدت الكنيسة مع ثورة ٢٣ يوليو، ودعمت شعاراتها القومية، وحينما أقرت كنيسة الفاتيكان، تبرئة اليهود من دم المسيح، رأس الوفد القبطي المراقب في مجمع الفاتيكان، القمص باخوم عطالله المحرقي "الأنبا غريغوريوس"، والذي قال في اجتماع الفاتيكان: إن نقط الالتقاء بين الإسلام والمسيحية، أعظم من نقط الالتقاء بين اليهودية والمسيحية.
وأثناء هزيمة يونيو ١٩٦٧؛ شاركت الكنيسة في بيان أصدره شيخ الأزهر والبطريرك، وحددت موقفها من إسرائيل ذاتها، وجاء في كتيب أصدره بيت التكريس بحلوان، أن وراء زرع إسرائيل كدولة، وسط الشعوب العربية، عوامل تعتمد على أوهام دينية، واستمرت الكنيسة في دعم مكثف لحقوق مصر وفلسطين.
وأوفد البابا كيرلس السادس، الأنبا صموئيل، إلى الدول الغربية والعواصم الأوروبية، والولايات المتحدة، وأرسل رسالة إلى بابا الفاتيكان جاء فيها: لا يخفي ما أحدثه القرار الذي اتخذته إسرائيل بضم القدس العربية إليها، هزة عنيفة في مشاعر العرب، مسلمين ومسيحيين، وليس أشق على ضمير الإنسان ووجدانه من عمل عدواني يمس عقيدته ومقدساته، واختتم رسالته بعبارة قوية قال فيها: إن العرب لن يمكنوا إسرائيل من الأراضي المقدسة.
وعندما تنحي الرئيس جمال عبدالناصر، رأس البابا كيرلس، وفدا من آباء الكنيسة، معلنا تمسك الأقباط بعبدالناصر، ودقت أجراس الكنائس ابتهاجا بعودة الرئيس، بجانب دعم البابا كيرلس الدولي ومناشدته إمبرطور إثيوبيا مساندة مصر، ووصفت العلاقة بين ناصر والبابا، بـ"الممتازة""، انعكست على تفهم مجلس قيادة الثورة، والرئيس جمال حقوق الأقباط.
وتم في عهده بناء وتدشين الكاتدرائية المرقسية الجديدة، وشارك الرئيس وكبار رجال الدولة وأعضاء مجلس قيادة الثورة في حفل افتتاحها، وحتي عام ١٩٧٠م لم تحدث شكاوى طائفية، وظلت العلاقة بين الأقباط والنظام علاقة قوية.