إذا نظرنا إلى الوراء قبل عدة أسابيع، نقوم بتحليل الأحداث التى وقعت فى «الضواحي»، حيث تعرضت الدولة وقوات النظام للهجوم والتحدى طوال ليال كاملة من قبل عصابات المنحرفين والشباب العاطلين عن العمل والجماعات التخريبية من الفوضويين المتطرفين أو اليساريين العنيفين، الذين أضرموا النار فى مئات البنوك، وآلاف السيارات، والمبانى، والمتاجر، وهاجموا مراكز الشرطة، والمدارس، وسيارات الإسعاف، والمستشفيات، ودور الحضانة؟
الملاحظة الأولى: من الواضح أننا نشهد فى فرنسا، كما فى هولندا، والسويد، وألمانيا، وبلجيكا، وإنجلترا، هزيمة مبرمجة لنموذج المجتمع متعدد الثقافات، والتى كانت تتصورها النخب الأوروبية والغربية لتبرير الهجرة غير المنضبطة خارج المجتمع. ولتبرير لاحقًا عدم الاندماج والفشل التام فى استيعاب بعض أحفاد المهاجرين المسلمين من أفريقيا وشمال أفريقيا.
وهنا تجدر الإشارة منذ البداية إلى أن هذه الملاحظة التشاؤمية تتعلق فقط بجزء من هاتين المجموعتين على وجه التحديد، والتى لا ينبغى بأى حال من الأحوال وصمها بالعار، ولكن يجب علينا بالتالى تحليل الانجراف إلى مجتمع مضاد معاد بشكل أساسى لفرنسا والمؤسسات الجمهورية.
من وجهة النظر هذه، فإن المصدر الحقيقى لهذا الانقسام- الذى يتفاقم كل عقد- فى المجتمع الفرنسى، لا يعارض بطريقة جوهرية الشعب الفرنسى «الأصلى» والمهاجرين أو أطفالهم المشوهين، ولكن، من ناحية، يعارض الفرنسيون الأصليون وأحفاد المهاجرين المندمجين، ومن ناحية أخرى أبناء المهاجرين من أصول عربية وأفريقية تم تلقينهم فى الكراهية المطلقة تجاه الغرب وفرنسا وقيمها ومواطنيها الأصليين ومؤسساتها العلمانية وذات السيادة.
هؤلاء «الشبابـ«، فى رأيى، تم تلقينهم بشكل أساسى من قبل ثلاث «قوى» تخريبية:
١- تجار المخدرات والرؤساء الذين يرعبون ويسيطرون على مئات الأحياء الخارجة عن القانون فى فرنسا والذين يستخدمون أى ذريعة لمهاجمة الشرطة، بمجرد أن تطأ أقدامهم هذه الأحياء الخاضعة للسيطرة من قبل تجار المخدرات، والهدف من ذلك هو ثنى الشرطة عن الدخول كجزء من «باكس الضواحي». لذلك فإن أولى ضحايا هذا العنف فى «الضواحى» هم السكان الشرفاء فى هذه الأحياء الذين تم أسرهم كرهائن من قبل الأقليات من المنحرفين العنيفين. والدليل هو أن ٩٩٪ من السيارات والمدارس والمبانى التجارية وقاعات البلديات والمبانى البلدية والاجتماعية التى تعرضت للهجوم تقع فيما يسمى الأحياء الحساسة حيث تكون الأغلبية المسالمة التى يمكن أن تندمج إما مرعوبة أو مدفوعة إلى أوميرتا أو سلبية. دعم البلطجية تحت التهديد بعقوبات خطيرة.
٢- الإسلاميون المتطرفون، خاصة الإخوان المسلمون والسلفيون أو غيرهم من الشبكات الإسلامية المعادية للغرب، مدعومة أحيانًا من دول تكره فرنسا (تركيا أردوغان، الجزائر) وينتشرون فى الأحياء، من خلال مراكز الثقافات الإسلامية والمساجد، وهو كراهية انتقامية عنيفة ضد فرنسا، وبالتالى ضد الجمهورية العلمانية - التى تتهمها هذه الشبكات بـ«الإسلاموفوبيا» - وضد «الكفار» الفرنسيين، المتهمين بأنهم أصل كل مشاكل ومعاناة أطفال المسلمين المهاجرون... الضحايا فى جوهرهم وغير مسئولين، بما فى ذلك فى أسوأ تجاوزاتهم التى يُنظر إليها على أنها «ردود فعل» على «الإسلاموفوبيا» الهيكلية للجمهورية.
٣- جزء من اليسار الراديكالى، البرلمانى فى بعض الأحيان، مع حزب ميلنشون وحلفائه البيئيين، وأحيانًا تخريبى - عنيف، مثل الجماعات الناشطة التروتسكية وغيرها من الحركات الأناركية الشيوعية المرتبطة بالكتل السوداء، والتى ترى فى الضواحى التى يسكنها الشباب أبناء وأحفاد سكان الساحل والشمال أفريقيين الذين يعانون من ضعف الاندماج أو العاطلين عن العمل، واحتياطى متمردين قابل للتعبئة، و«بروليتاريا مقاتلة» جديدة ستحل محل البروليتاريا الفرنسية الأصلية. باختصار، كتلة يمكن استغلال قوتها العنيفة وانزعاجها من أجل زعزعة استقرار المجتمع الفرنسى المعرَّف بأنه «برجوازى» يهودى مسيحى، ومبدأ الدولة القومية ذاته، الذى يكرهه أنصار «الأممية الماركسية».
فرنسا ليس لديها مشكلة مع الهجرة وأحفادها، لكن البعض منهم لديه بعض المشاكل ضد فرنسا!
لنكن واضحين: ليس لدى فرنسا مشكلة مع المهاجرين بشكل عام - أنا بنفسى ابن لاثنين من المهاجرين، وأزنافور نفسه، المطرب الوطنى الأكثر شهرة ومحبوبًا لدينا، كان أرمينيًا، ناهيك عن زيدان أو بنزيمة، وهو مشهور جدًا فى فرنسا، فقط مثل عمر سى الذى لم يمنعه لونه من أن يصبح من أكثر الشخصيات المحبوبة لدى الفرنسيين.
ومع ذلك، فإن جزءًا كبيرًا (وليس الأغلبية) من المسلمين، وأحفاد سكان الساحل وشمال أفريقيا وكذلك الأتراك، على الرغم من أنه بطريقة أقل عنفًا، يكرهون فرنسا بشدة، ليس لأنهم «سيئون» أو عنيفون ومعادون بسبب دينهم، ولكن ببساطة لأنهم تلقوا تعليمهم فى بعض الأحيان من قبل آبائهم، وغالبًا من قبل الأئمة المتعصبين، وأيضًا من قبل اليسار المتطرف التخريبى ومن قبل بعض الدول المعادية (تركيا والجزائر)، فى كراهية انتقامية وفى شكل من أشكال «العنصرية العكسية»، معاداة الغرب معادية تماما للفرنسيين «الكفار - الصليبيين - المستعمرين».
ألاحظ أنه حتى أكثر المهاجرين المسلمين الهندى والباكستانيين استياء وأفقرهم، المسلمون السنغاليون، والهنود الهندوس، وأطفال المهاجرين الآسيويين من الهند الصينية الفرنسية السابقة (فيتنام، ولاوس، وكمبوديا، إلخ)، وكذلك المسيحيون الأفارقة السود، لا يشارك الأمريكيون اللاتينيون، وأبناء الصينيون، أو حتى الروس وغيرهم من السلاف دون أن ينسوا المعنوش والغجر (غالبًا ما يكونون متهورين أو موصومين)، فى الثورات والنهب من أجل الانتقام ومعاداة الفرنسيين، ولا يتهمون المؤسسات الفرنسية أبدًا إساءة معاملتهم. ولا حتى أبناء الفيتناميين والكمبوديين، الذين استعمرتهم فرنسا سابقًا والذين تعرضت بلادهم للقصف والمعاملة بعنف مثل الجزائر من قبل فرنسا الاستعمارية.
علاوة على ذلك، فإن اتهام الجمهورية بـ «العنصرية الهيكلية» غير واقعى وغير عادل: تقدم الدولة الفرنسية لجميع العائلات والمهاجرين وأطفال المهاجرين الذين لديهم العديد من الأطفال، إعانات ضخمة لا توجد فى إسبانيا أو إيطاليا أو فى أى مكان آخر باستثناء السويد وبلجيكا.
خطأ النخب والمثقفين الفرنسيين الذين بذلوا قصارى جهدهم لمنع اندماج المسلمين من خلال وضع ثقتهم بجماعة الإخوان المسلمين المتعصبة.
المشكلة الحقيقية هى أننا لم ننجح فى دمج، وحتى أقل فى استيعاب، السكان الأفارقة والعرب البربر المغاربيين المسلمين الذين أخطأت الدولة فى تركهم فى أيدى الأئمة الراديكاليين والمخربين والذين أخطأوا. أرادت جماعات التأثير «المناهضة للعنصرية والمناهضة للفاشية» وجماعات الضغط على اليسار استغلال نضالهم الثورى من خلال إيذاءهم و«إصابتهم بجنون العظمة» بالتعاون مع حلفائهم من الإخوان المسلمين.
فى أذهانهم الفكرة الخطيرة للغاية التى تفيد بأن أبناء المهاجرين من البلدان الإسلامية فى الساحل والمغرب العربى لن تكون لهم واجبات سوى الحقوق (التعويض الدائم الذى يطالب به المستعمر)، والتى بموجبها «العنصرية البنيوية» ستكون الشرطة والدولة جوهرية فى المؤسسات والقيم الجمهورية الفرنسية العلمانية و«الكافرة الغربية» التى يجب محاربتها.
وبالتالى، فإن صدمة الضواحى ليست دليلًا على هزيمة النموذج متعدد الثقافات فى حد ذاته، والذى يعمل جيدًا بين الثقافات غير المتعارضة والأعداء (على سبيل المثال، يعمل فى سويسرا والسنغال والبرازيل وأمريكا اللاتينية بشكل عام، فى موريشيوس أو سنغافورة)، لكنها أزمة تعدد ثقافى بين السكان غير المسلمين والمسلمين، عندما تترك الدولة غير المسلمة والعلمانية أطفال المهاجرين كمرعى وفى أيدى الدول المنتقمة (الجزائر، تركيا، قطر، باكستان، إلخ) أو منظمات إسلامية عالمية تخريبية ومعادية للكفار (السلفيون المتطرفون، الإخوان المسلمون العرب، الإسلام السياسى الباكستانى والملى التركي).
لقد قللت أوروبا الغربية لعقود من تقدير مخاطر صدام الحضارات والأديان الداخلية لمجتمعاتها، وقد أعمتها إيديولوجية متعددة الثقافات غير محدودة أيديولوجية بمعنى الذنب المعمم ضد الغرب (Wokism).
وهذا يعنى أنه إذا لم نقض تمامًا فى فرنسا وأوروبا على جماعة الإخوان المسلمين والجماعات التخريبية التى تستخدم أطفال المهاجرين المسلمين كعمالة ثورية، فسوف نشهد حركات تمرد أوسع وأكثر عنفًا فى العالم. فى المستقبل، دون استثناء خطر اندلاع حرب أهلية، عندما يتجاوز عدد المتمردين المتطرفين الساخطين الحد المسموح به هيكليًا... هذا ليس رأيًا متشائمًا وكاريكاتوريًا لـ «شعبوى كاره للإسلام»، ولكنه رأى شخص مهووس بإيجاد حلول ويؤمن بالحقيقة.
و"التكامل» الوطنى، ينطبق تمامًا على المسلمين إذا كان يشرف عليهم أئمة معتدلون ومستنيرون، وإذا تم إبعادهم عن جماعة الإخوان المسلمين التخريبية التى تدعو إلى عدم الاندماج والتفكيك والانسحاب المجتمعى الذى وصفه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بـ «الإسلاميين». الانفصالية «.
وعمل اثنان من كبار الباحثين والمفكرين الفرنسيين، بالتأكيد لا يشتبه فى «العنصرية المعادية للإسلام»: مليكة سوريل، ولدت فى الجزائر، وعضو سابق فى المجلس الأعلى الفرنسى للاندماج المرموق، أو طارق يلدز، عالم الاجتماع البحثى من فرنسا التركية، الذى كتب مقالًا عن «العنصرية ضد البيض»، أكد النتائج التى توصلنا إليها.
إضافة إلى كل ذلك، فيما يتعلق بصعوبة اندماج المسلمين (تحت إشراف الأصوليين من الإخوان المسلمين) فى مجتمع غير مسلم، يكفى إعادة قراءة عمل عالمين مشهورين عالميًا: كلود ليفى شتراوس - الذى كتب بصرامة عن عدم التوافق بين المجتمع المفتوح والشريعة - وبرنارد لويس، عالم الإسلام الأبرز فى العالم الذى تنبأ بانقسام المجتمعات متعددة الثقافات فى محاولة للجمع بين المسلمين غير المندمجين وغير المسلمين فى مقالته «عودة الإسلام».
أما الأفضل من ذلك، نتذكر التصريحات المتشائمة والمبالغ فيها من وجهة نظرى لملك المغرب الأسبق، الحسن الثانى، الذى صرح قبل ٣٠ عامًا: «لن يكون المسلمون، ولا سيما المغاربة، أبدًا شعبًا فرنسيًا، ولا تحاولوا حتى دمجهم»، بين الأوروبيين، كان الأمر ممكنًا لكن هنا يتم التعامل مع مسلمين سوف يصنعون فرنسيين سيئين لأنهم سيبقون مع أصولهم».
أنا أكثر تفاؤلًا من الحسن الثانى، لأننى أعتقد، مثل كبار القادة المسلمين العلمانيين، التركى أتاتورك والتونسى الحبيب بورقيبة، إذا سيطرنا على شبكة الأئمة والمساجد، إذا أنشأنا «إسلامًا جمهوريًا فى فرنسا» ؛ إذا حمينا مواطنينا المسلمين الفرنسيين من تأثير الإخوان المسلمين وغيرهم من المتعصبين للإسلام السياسى، يمكننا دمج الشباب المسلمين فى المجتمع العلمانى الحديث.
الشرط الأساسى هو جعل مجتمعاتنا الإسلامية منيعة أمام الأصوليين الإسلاميين والإخوان المسلمين والسلفيين والتأثير التخريبى لبعض الدول الأصولية والراديكالية المعادية لقيمنا.
معلومات عن الكاتب:
ألكسندر ديل فال.. كاتب وصحفى ومحلل سياسى فرنسى. مدير تحرير موقع «أتالنتيكو». تركزت مجالات اهتمامه على التطرف الإسلامى، التهديدات الجيوسياسية الجديدة، بالإضافة إلى قضايا البحر المتوسط إلى جانب اهتمامه بالعلاقات الدولية.. يكتب عن الأسباب الجذرية لاحتجاجات الشارع الفرنسى التى ما تزال لها صداها حتى الآن.