الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

تقارير وتحقيقات

مصطفى بيومى يكتب: العبقرى الذى أعاد تشكيل المجتمع.. قدم تشريحًا مجتمعيًا لحقبة ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فى رائعة «دعاء الكروان»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

من يتحمل مسئولية النهاية المأساوية لهنادي؟ أهو الخال القاتل ناصر؟، أم الفتاة نفسها بسلوكها المستهتر؟ لا بد أن تشير أصابع الاتهام أيضا إلى مهندس الرى الشاب الذى لا يحمل اسما، فهو من يغوى هنادى ويدفعها إلى الخطيئة المهلكة.

مصطفي بيومي

بالنظر إلى المرحلة التاريخية التى تدور فيها أحداث الرواية، نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تمثل وظيفة مهندس الرى جزءا من منظومة الطبقة الراقية فى المدن الصغيرة، ويتجلى ذلك فى نصيحة شيخ العزبة لأم الفتاتين اليتيمتين، هنادى وآمنة: "ما أكثر العمل هنا! فالتمسى حياتك وحياة ابنتيك فى بيوت هؤلاء المترفين الذين لا يعملون فى الزرع والحرث، وإنما يعملون فى خدمة الحكومة، منهم من يخدم فى معامل السكر، ومنهم من يخدم فى المركز، ومنهم من يخدم فى المحكمة الأهلية أو الشرعية، ومنهم مهندس الري، ومنهم مهندس الطرق".

طه حسين وزوجته

المهندس الشاب ينتمى بحكم وظيفته إلى الصفوة، ويسكن منزلا تنم مفرداته عن الثراء واليسر والترف. فضلا عن هذا، يتسم المهندس بملامح شكلية جميلة، تجعله فاتنا فى عيون الفتيات، وليس أدل على ذلك من الوصف الذى تقدمه آمنة:"ذلك الشاب الرشيق الأنيق ذى الوجه الوسيم، ذلك الشاب الذى كان يعيش وحيدا فى دار واسعة، تحيط بها حديقة جميلة نضرة، ولا يعيش معه فيها إلا خادم ريفي، يحرس الدار ويعنى بالحديقة، وإلا أختى تنظف الدار وتعنى بمتاع الشاب، وكان الطعام يأتيه غزيرا موفورا من مطعم المدينة، فيصيب منه القليل، ويترك أكثره لخادميه".

ليس مستغربا أن تحبه هنادى محدودة الخبرة وتستسلم له، والمهندس بدوره لا يتورع عن علاقات كهذه، تنبئ المؤشرات جميعا على أنها لا تقتصر على هنادى وحدها، دون غيرها من الخادمات السابقات واللاحقات. بعد معرفة حقيقة العلاقة الصادمة، تأبى الأم إلا الرحيل مع ابنتيها، واللافت أن الفتاة الضحية تتشبث بالحب الذى يفضى بها إلى الكارثة المروعة. وفقا لما تستدعيه آمنة:"كنت أحسبها محزونة لما تورطت فيه من خطيئة، وما أشك فى أنها أحست هذا الحزن، وما أشك فى أن الندم قد عذبها تعذيبا، لكننى بعد أن أنفقت معها ليلة كاملة وتبينت من أمرها ما تبينت استقبلت الصبح ونفسى تذوب أسى وحسرة على هذه الفتاة التى تنظر وراءها فترى حبا مُضيعا، وتنظر أمامها فترى خوفا مروعا، وتود لو استطاعت أن تعود أدراجها إلى حيث الحب وما يمكن أن يستتبع من نعيم أو بؤس ومن سعادة أو شقاء".

صناعة المأساة موزعة بين رجلين متناقضين، الخال مفرط القسوة، والمهندس الجميل عاشق اللهو، ولعل الصياغة التى تقدمها آمنة هى الأدق فى التعبير عن الرحلة القصيرة التعيسة لشقيقتها مع الحياة:"وماتت لأن شابا آثما أغواها ولأنها لم تحسن أن تدفع عن نفسها غوايته".

تبرئة هنادى ليست واردة، فهى ضعيفة الإرادة عاجزة عن مقاومة السقوط، لكن المهندس يتحمل الجانب الأكبر من المسئولية، ذلك أنه يحقق انتصارا سهلا فى معركة تخلو من الندية والتكافؤ.

 

تأبى آمنة إلا أن تثأر لشقيقتها المغدورة، والمهندس الذى يغرر بها هو الهدف من الانتقام. الخال القاتل أداة تنفيذ الحكم، ومهندس الرى من يمهد بسلوكه للجريمة، فكيف يفلت من العقاب المستحق؟ إنه مانح الحياة القصيرة المغلفة بالمتعة والأحلام، وهو أيضا من يقضى عليها بالموت. لا شك أن هنادى تستمتع بقصتها القصيرة مع الشاب، ومشاعرها بعد نهاية القصة موزعة بين الندم على ما اقترفت من خطيئة، والأسف على الحرمان من النعيم. هذه الثنائية تسيطر على إدراك آمنة وتزيدها إصرارا على الثأر، وتدفعها إلى تساؤلات مهمة عن طبيعة المهندس والسر فى سيطرته على الشقيقة التى تتمسك بحبه حتى الرمق الأخير:"من هذا الشاب؟ أو من عسى أن يكون؟ وكيف يمكن أن يكون؟ أى شيء فيه أغوى هذه الفتاة البائسة ودفعها إلى ما دُفعت إليه؟ ما عسى أن يكون حظى منه إن لقيني؟ أوَ أحبه أم أبغضه؟ أيحبنى أم يبغضني؟ ما هذه الغواية التى أفسدت على أختى أمرها وأفسدت علينا جميعا أمرنا. وقضت على أختى بالموت ونغصّت علينا جميعا لذة الحياة؟".

تموت هنادى ويبقى هو فرحا مرحا، كأنه لم يرتكب ذنبا يقود إلى جريمة القتل التى لا يُسأل عنها كأنه بريء. لعله لا يفكر فيها أو ينشغل بها، فما أكثر ضحاياه فى رحلته مع حياة اللهو. فى هذا السياق، تبدو تساؤلات آمنة منطقية مبررة، معبرة عن الأزمة الخانقة التى تكابدها وتتعذب بها:"وليتنى أعرف كيف يلقى ذكرها إن ذكرت له: أيبسم لصورتها أم يلقاها بالعبوس! بل ليتنى أعرف كيف يلقى النبأ البشع المروع إن أُلقى إليه: أيحزنه أن يعلم أنها ذاقت الموت وأنها ذاقته لأنه هو قد دفعها إليه، أم يقع هذا النبأ من نفسه موقعا يسيرا فلا يثير فى قلبه حزنا ولا أسفا ولا يسلّط على نفسه لوعة ولا ندما".

الرغبة فى المعرفة تسيطر على آمنة، والإحاطة بأخبار غريمها وتفاصيل حياته هاجس لا يغادرها بغية الثأر ورد الاعتبار. هل تعى فى اندفاعها هذا أن الفوارق قد تزول بين الكراهية والحب؟، وأنها تسير فى الدرب نفسه الذى ينتهى بهنادى إلى الهلاك؟.

قبل الاقتراب من مهندس الرى والتواصل معه، تستعيد آمنة أغنية شعبية شائعة ترددها هنادى قبل قتلها، وتكشف عن طبيعة المشاعر التى تعتمل فى أعماقها:

" آه يانا من غرامه يانا

وإن كنت أحبه ما عليّ ملامه"

تعيد آمنة إنتاج دلالات الأغنية، فتثير أمامها صورا ثلاث: "صورة هذا الفتى الجميل الرائع يغرى بالإثم ويدفع إليه، وصورة هذا الشيطان الآثم المريد يأخذ بالإثم ويعاقب عليه، وصورة هذه الفتاة البائسة اليائسة يتنازعها الإغراء المضنى والعقاب المفني، ثم أنظر إلى هذه الصور فأسأل نفسى أين أنا منها؟".

الموقف ليس حاسما واضحا مستقرا على شاطئ اليقين، والاختلاط يطل فتتشكل ملامح لوحة ذات أبعاد متعددة، يجمع فيها المهندس المتهم بين الجمال والتكوين الشيطاني، فكأنها المقدمة لميلاد عاطفة الإعجاب والحب، والتخلص من الرفض والكراهية: "وأما هذا المهندس الشاب فما أدرى أين يكون مكانى منه: أهو مكان المبغضة العدو أم هو مكان المحبة الهائمة!".

لمهندس الرى جاذبيته وسحره، والإثم الذى يرتكبه حقيقة لا شك فيها، بقدر ما أنه يبقى مسكونا بخواص النار، حيث المزيج المعقد من الدفء والإحراق. خطوة آمنة الجديدة هى الانتقال لمبارزة المهندس فى عقر داره، تماما كالفراشة التى تندفع للهلاك، مسلحة بالأمل فى إطفاء النار والظفر بالخلاص!.

حياة الغريم الشرير الجميل، الكريه المحبوب، تزدحم بمن يعملون فى خدمته، وسكينة هى الفتاة البديلة لهنادي، لا تخلفها فى القيام بما تحتاج إليه الدار من خدمة فحسب"وإنما خلفتها على قلب هذا الشاب إن كان لهذا الشاب قلب، بل خلفتها على هواه ومجونه وعلى إثمه وغوايته، وما أكثر ما لهذا الشاب من الهوى والمجون، ومن الإثم والغواية!".

حياة مهندس الرى المغامر أشبه بالكتاب المفتوح الذى لا تغيب صفحة من صفحاته عن عينى آمنة، ولا شيء يردعها عن الاندفاع لاستكمال مشروعها الذى لا يخلو من غموض وضبابية، غرام هو أم انتقام؟.

 

شروع المهندس فى خطوبة خديجة ابنة المأمور لا يمثل مفاجأة تثير الدهشة، ففى مجتمع ذى سمات طبقية صارمة، تضيق الدائرة ويتزاوج الأنداد من أصحاب المكانة، وما أقلهم فى العدد والنسبة، مناسبة كهذه جديرة بالاهتمام والاحتفاء، ذلك أنها لا تتكرر كثيرا، ويتطلع الفقراء والمحرومون إلى ما يقترن بها من عطايا وهبات واحتفالات صاخبة بهيجة. لا شك أن الدافع إلى الزواج اجتماعى قوامه الندية والتكافؤ، وتصر آمنة أن ترى فى الزيجة التى لا تتم نوعا من الخيانة لذكرى شقيقتها:"هذا المهندس الشاب قد أغوى أختى ثم دفعها إلى الموت، ثم أخذ يخونها وينتهك ما كان يجب لها عنده من حرمة، ثم هو الآن ينظم الخيانة تنظيما، ويريد أن يأتيها ويقدم عليها ويمضى فيها جهرة باسم الدين والعرف والقانون".

تنسى آمنة أو تتناسى أن لهو المهندس مع هنادى وغيرها من الخادمات يختلف بالضرورة عن الزواج، فالنمط الأول من العلاقات يستهدف المتعة المجانية والتسلية، أما الارتباط المحسوب فيراود الاستقرار وتكوين الأسرة. مفهوم "الخيانة" لا يخطر على بال المهندس، والحب الذى تكنه آمنة لخديجة لا يحول دون السعى إلى إفساد الزيجة، بل إنها ترى فى الحب دافعا لإنقاذ سيدتها الصغيرة من الشر الذى يتهددها!.الدافع الحقيقى يتمثل فى طموح الثأر وشهوة الاستحواذ على المهندس، "الذى كان لأختى منذ حين والذى يجب أن يكون لى بعد حين، كأنما ورثته عنها بعد الموت!".

أى ميراث تتطلع إليه؟ لا تفسير إلا أنها تحبه على الرغم من قشور الكراهية التى تتمثل فى شهوة الثأر المعلنة، والطموح كله أن يكون لها.

تنجح فى إفساد الزيجة بإفشاء ما تعرفه من خبايا وأسرار لزوجة المأمور، والسؤال هنا: هل تكفى مغامرات المهندس العاطفية، التى لا تختلف عن سلوك غيره من شباب المرحلة، لتشويه صورته وإقناع أم خديجة برفض زيجة مثالية لا تتطلع لأفضل منها؟.

لفسخ الخطوبة فى مهدها على هذا النحو تبعات ونتائج، وينقسم الرأى العام المحلى فى تفسير الواقعة، فريق يرى:"أن المهندس هو الذى قطع الخطبة لأشياء بدت له، ومنهم من يزعم أن المأمور هو الذى رفض الخطبة لما تبين من سوء سيرة هذا الشاب".

لا يقف الأمر عند الأقاويل والتكهنات، ذلك أن المأمور يطلب نقله إلى مكان بعيد، وعندئذ تخلو الساحة لآمنة بلا منغصات.

 

ينجح تخطيط آمنة للعمل فى بيت المهندس، وتصل بنجاحها هذا إلى المحطة الأخيرة فى الصراع الطويل المعقد الذى يبدأ مع قتل هنادي. ما الذى ترومه على وجه التحديد؟، إنها تعى حسية المهندس ونهمه، وتراود تحطيم غروره وتلقينه درسا عن معنى المقاومة التى لا تعرف الاستسلام والرضوخ. فى هذا الإطار، تمتنع عليه وتصنع حالة من التوتر والقلق لم يعرفها من قبل، وسرعان ما تفضى الوضعية الجديدة إلى صياغة مختلفة للصراع غير التقليدى القائم بينهما: "فسيدى لا يطلب عندى الآن حبا ولا لذة ولا إثما، وإنما يطلب إلى خضوعا وإذعانا واستسلاما. هو يريد أن ينتصر لا أن ينعم، ومن يدري! لعله إنما يؤجل إقصائى عن داره حتى يتم له النصر، ويتحقق له الفوز، فيخرجنى ذليلة صاغرة قد آمنت له وأذعنت لسلطانه!. ويكفى أن يخطر لى هذا الخاطر وإذ أنا مثله متعلقة بالعناد، ملحة فى الخصام، قد نسيت الانتقام أو كدت أنساه".

لم تعد القضية فى الثأر لهنادي، التى تتراجع أهميتها، والبطولة المطلقة من نصيب آمنة وطموحها الشخصى المسلح بالعناد والتحدي، تبارزه على أرضية الحب الكامن الذى تكتمه ولا يصعب استنباط وجوده، ويعاركها بدوره من منطلق البحث عن انتصار لهيبته وكرامته، دون اهتمام بالمطالب الحسية وحدها.

من دوامة الصراع هذه يتأكد الحب، وعندما ينتقل المهندس للعمل فى القاهرة، يبدأ الفصل الأخير فى الصراع متعدد الفصول والأبعاد. يصر على اصطحابها معه ولا تمانع، وتقيم فى منزل أسرته كأنها الصديق لا الخادم، وتحظى من أبويه بالبر والعطف والرفق والحنان.

على الصعيد الاجتماعى الطبقى التقليدي، يمثل عرض الزواج الذى يتقدم به مهندس الرى مفاجأة لا يسهل قبولها واستيعابها، لكن الأمر كله منذ البدء لا يخضع للمألوف السائد، فكيف يتم التقييم وفق قوانين لا موضع لها؟. ينتصر طه حسين بطريقته الخاصة لفكرة الصعود الطبقى الذى يعيد تشكيل الخريطة بلا عناء، لكن النهاية المفتوحة للرواية لا تجعل من الزواج فعلا حتميا. الأهمية تكمن فى معرفة المهندس للتاريخ المخبوء والقدرة على تجاوزه والاستهانة به، لكن شبح هنادى يقف بينهما ولا يمكن إهماله وإنكاره.

 

آمنة هى الشخصية المحورية الرئيسة فى "دعاء الكروان"، وهنادى فى حضورها وغيابها ذات تأثير من طراز مختلف، أما الأم والخال والمأمور وزوجه وابنته خديجة، وغيرهم من الشخوص الأقل أهمية، فيلعبون أدوارا متباينة متفاوتة، ويبقى المهندس الشاب مجهول الاسم ذا نسيج لا يشبه غيره، فهو صانع المأساة الذى يتعرض للهزيمة والانكسار قرب النهاية، كأنه يكفّر بالمصير الذى يئول إليه عن خطاياه وآثامه مع هنادى وغيرها من ضحاياه.