عندما لا يفقد البيت الأبيض أو «الدولة العميقة» القدرة على حل المشاكل، فإن وكالة المخابرات المركزية (CIA) تعتنى بالأمر؛ فهو أقوى جهاز سرى فى العالم لديه بالفعل دائمًًا حلول بديلة محتملة فى الدرج يمكن استخدامها ليس فقط من أجل الحفاظ على مصالحها فى «الدول التى تسيطر عليها» مثل أمريكا الجنوبية. وكما نعلم فإن كل أمريكا الجنوبية منذ حقبة مونرو تعتبر الحديقة الخاصة للولايات المتحدة والتى تتمتع فيها بنفوذ وسيطرة ملحوظة، وبالتالى ووفقًا لهذه العقيدة، لا ينبغى السماح لأحد بإزعاج «حامية الحرية والديمقراطية» ألا وهى الولايات المتحدة. ومن أجل الاحتفاظ بالسلطة، فإن أساليب الولايات المتحدة هى الأكثر تباينًا: الانقلابات، والاغتيالات ذات الدوافع السياسية، ذلك أن وكالة المخابرات المركزية لديها الحل لكل المشاكل... قائمة الانقلابات وزعزعة الاستقرار وعمليات التزوير الانتخابى التى تروج لها الولايات المتحدة الأمريكية فى الخارج طويلة.
آثار الدماء تنتشر فى كل مكان عقب العمليات التى يقومون بها بحيث لا توجد دولة فى العالم تحظى بمثل هذا الكره الذى تحظى به الولايات المتحدة من قبل كثير من الشعوب. ربما، عندما قال الرئيس الأمريكى أبراهام لينكولن «يمكنك أن تخدع الجميع لبعض الوقت، أو البعض طوال الوقت، لكن لا يمكنك خداع الجميع طوال الوقت» كان يتحدث بدقة عن زملائه الأمريكيين!.
لن ننخدع بشعارات الديموقراطية والحرية
وقد كنا نحن الإيطاليين ضحايا للعمليات المناهضة للهيمنة والمزعزعة للاستقرار التى قامت بها وكالة المخابرات المركزية: فقد تم اغتيال الرئيس السابق لشركة النفط الإيطالية (ENI) إنريكو ماتى، والسياسى ألدو مورو، بينما تم نفى الرئيس السابق للمجلس الاشتراكى بيتينو كراكسى إلى تونس حيث مات هناك. لقد عشنا نحن الإيطاليين لمدة ٨٠ عامًا كمستعمرة أمريكية حقيقية.
التهديد الأوروبي-الروسي
ولكن السيناريو الذى يبدو أكثر خطورة وأكثر إثارة للقلق، من وجهة نظر استراتيجيى الولايات المتحدة، هو الظهور الافتراضى لترابط الاقتصاد الروسى مع ألمانيا وإيطاليا أو دول أوروبية أخرى. عدم اكتراث أوروبا بحلف الناتو (عدم احترام قيود الإنفاق)، قبل الحرب فى أوكرانيا، واتجاه «ما بعد التاريخ» الذى يسود أوروبا القارية، من وجهة نظر الإدارات الأمريكية المختلفة، أمر لا يقبل أى استثناءات ويجب أن يتم التعامل معه قبل أن يستفحل خطورته. لقد توقعت الخطة الاستراتيجية التى انبثقت عن الاجتماعات الاستراتيجية للأمانة العامة للولايات المتحدة، منذ فترة طويلة، خنق روسيا بمساعدة الأوروبيين المستعبدين الذين هم ضحايا الهيمنة الأمريكية وجعلهم من خلال حملة إعلامية مروجين متحمسين لهذه الخطة الأمريكية.
أن الامريكان ليسوا هؤلاء «الرجال اللطفاء» الذين قاموا بتدليلنا نحن الإيطاليين خلال الحرب الباردة، لأن إيطاليا كانت على خط المواجهة لاحتواء السوفييت، فى الوقت الذى شاركنا فيه فى عمليات «عسكرية» مثل عملية سيجونيلا. نذكر أن سيجونيلا أخذت اسمها من القاعدة الجوية التى اندلعت فيها هذه الأزمة، فى صقلية. هذه القضية الدبلوماسية، التى وقعت بين إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية فى أكتوبر ١٩٨٥، كانت مخاطرة من شأنها أن تؤدى إلى مواجهة مسلحة بين فام (حرس أمن الطيران) وكاربينيرى (قوات الدرك الوطنى الإيطالية)، عندما اشتبك جنود دلتا فورس (وحدة خاصة تابعة للقوات المسلحة الأمريكية)، بشكل خطير بعد خلاف سياسى بين رئيس الوزراء الإيطالى بيتينو كراكسى والرئيس الأمريكى رونالد ريجان حول مصير الفلسطينيين الذين استولوا على السفينة السياحية الإيطالية أكيلى لاورو واختطفوها فى ٧ أكتوبر ١٩٨٥، مما أسفر عن مقتل راكب أمريكى.
بعد كل هذه السنوات والدروس المستخلصة من الأزمات، من الواضح لنا نحن الايطاليين، أن صورة هؤلاء الأمريكيين الكبار الذين «حرروا» أوروبا وإيطاليا وألقوا الحلوى والشوكولاتة والسجائر من دباباتهم وقاموا باحتلال إيطاليا بدعوى «تحريرها»، قد اتضحت الصورة تمامًا حيث استعبدونا لفرض هيمنتهم.
عندما انتهت الحرب الباردة، قامت وزارة الخارجية بتسوية الحسابات شيئًا فشيئًا ضد المعارضين لهيمنتهم، عن طريق إزالة عناصر قوتهم، وهذا ما يفسر سر انطفاء نور جميع معادى الأمريكان مثل إنريكو ماتى، أو ألدو مورو، أو بيتينو كراكسى. بشكل مأسوى، فقد قُتل ماتى ومورو ومات كراكسى فى المنفى.
لقد أصبحنا اليوم رعايا للولايات المتحدة يمكن التصرف فيهم كما تشاء من خلال جعلنا نشجع السياسات التى أعلنا مؤخرًا رفضها، كما كان الحال فى مؤتمر بوخارست فى عام ٢٠٠٨، عندما عارضت إيطاليا وفرنسا وألمانيا قبول جورجيا وأوكرانيا فى الناتو. من الواضح أن المعنى الوحيد لهذه الحرب المستمرة فى أوكرانيا هو تأكيد السيادة الأمريكية على روسيا وإن كان ذلك بوسائل أخرى غير الأسلحة، وعلى أوروبا ايضا، وذلك من خلال التلويح بلافتات الديمقراطية (المهترئة والحرية).
لقد انتهى شهر العسل لخطة مارشال. والآن يأتى واقع ما بعد الحرب الباردة. دعونا نبحث نحن الأوروبيين عن خطتنا الخاصة لتخليص أوروبا. لقد درست الجغرافيا السياسية لمدة ٤٠ عامًا، كما أننى على قناعة تامة أنه من الضرورى أخلاقيًا تقديم مساهمة صغيرة لرفع النقاش من مستوى العاطفة إلى مستوى المنطق والتحليل، والبحث عن الأسباب، لفهم الآثار، كما تتطلبه مثل هذه القضية الحاسمة للعالم بأسره. وأعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستخسر يومًا ما جميع حلفائها الأوروبيين، باستثناء بعض حلفاء الكتلة السوفيتية السابقة مثل بولندا، وسوف يتم تدميرهم فى نهاية الأمر.
الخطأ الفادح للولايات المتحدة الأمريكية هى أنها لا تكافئ حلفاءها: بل تكافئ من لا يستحق. إنه أمر مخزٍ، ذلك انهم غالبًا ما ينسون أولئك الذين كانوا قريبين منهم، والذين ساعدوهم فى أصعب الأوقات، والذين عملوا فى صمت، وتواضع، وبتكتم، دون طلب أى شيء، سلوك أكثر من المخزى بل ينتهى بهم الأمر فى كثير من الأحيان إلى مساعدة الدول عديمة الضمير (الدول المارقة).
تذكرنى هذه الطريقة التى لا ضمير لها فى استخدام الدول والرجال بجنرالات الحرب العالمية الأولى، عندما أمروا بشن هجمات دموية وعديمة الجدوى ضحوا فيها بملايين الفلاحين الفقراء وأفضل المفكرين الأوروبيين.
الشعب الأوكرانى وقود المدافع
ونذكر بالطبع أنه فى عام ٢٠١٤ تعرضت أوكرانيا لانقلاب من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأطاحوا بالرئيس المنتخب الموالى لروسيا ليحل محله رئيس موالٍ لأمريكا. كما قام الناتو منذ عام ٢٠١٤ بتدريب عشرات الآلاف من الجنود الأوكرانيين على ارتكاب مذابح بحق الأوكرانيين الروس فى دونباس، من بينهم هؤلاء الأطفال البالغ عددهم ٢٠٠ طفل. وإذا تحدثنا عن الصراعات الأخرى سنجد، مادلين أولبرايت على قناة سى سى إن تعترف أنها لا تهتم بـ٥٠٠ ألف طفل ماتوا فى العراق تحت قصف الولايات المتحدة أو بسبب المجاعة المرتبطة بالعقوبات الأمريكية.
مهزلة المحكمة الجنائية الدولية
» إن رؤية الولايات المتحدة الأمريكية وهى تطالب بمحاسبة بوتين عن جرائم الحرب التى ارتكبها الكرملين لأمر يدعو الى الغثيان». عندما يطالب أبطال الخمسين عامًا الماضية من الجرائم ضد الإنسانية بهذه المساءلة لا شك أنه أمر مخزٍ.. فى ١٧ مارس ٢٠٢٣، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف ضد يوتين. وجاء فى لائحة الاتهام الاتى: «مسؤول عن جريمة حرب تتمثل فى الترحيل والنفى غير القانونى للسكان (الأطفال). ومن الجدير بالذكر من بين الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن، انضمت فرنسا والمملكة المتحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية بينما لم تنضم الولايات المتحدة والصين وروسيا. ووصل عدد الدول التى انضمت إلى القرار ١٢٦ دولة. وماذا عن مذكرة توقيف تصدرها المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الولايات المتحدة آنذاك جورج دبليو بوش بتهمة ارتكاب جرائم حرب خلال حرب العراق الثانية عام ٢٠٠٣ من قبل الجيش الأمريكى؟.. السؤال مشروع، وقد وثق جوليان أسونج هذه الجرائم الأمريكية على نطاق واسع. وأذكر أن الأسباب الرسمية المعلنة للغزو الأمريكى للعراق كانت «نزع سلاح العراق من أسلحة الدمار الشامل» التى لم يتم العثور عليها أو إثباتها ومن ثم «إنهاء دعم صدام حسين (المزعوم) للإرهاب وتحرير الشعب العراقي». كانت هذه الأسباب هى الحجة وراء غزو العراق بينما كان الدافع الحقيقى هو المصالح الاقتصادية والسياسية، ولم يعد الاتحاد الأوروبى يثق بالولايات المتحدة الأمريكية.
معلومات عن الكاتب:
سالفاتور ألبيليس.. صحفى من صقلية، ورئيس الوكالة الصحفية «إيطاليان دى إيطاليا»، يواصل بهذا المقال، شرح فكرته عن دور الولايات المتحدة الأمريكية، التى لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها على حساب الدول والشعوب.