تسعى الطرق الصوفية إلى التقرب من الله عن طريق التجربة الروحية والتأمل والعبادة والاستغفار والتفكر فى الله، لكن يظل أحد أهم طرق التقرب إلى الله عند الصوفية هو "الذكر" أو "الحضرة الصوفية" التى يعود تاريخها إلى الحضور الصوفى فى مصر فى القرن الثالث عشر الميلادى، حيث بدأت بعض الطرق الصوفية المهمة مثل الطريقة الرفاعية والشاذلية فى الانتشار فى البلاد.
"الحضرة" أو الذكر، جزء أساسى من الثقافة الدينية والتراث الإسلامى فى مصر، ويعود تاريخه إلى العصور الوسطى. ويمارس الذكر فى مصر بشكل شائع فى الصوفية وفى العديد من المساجد والأضرحة والمنازل، ويتضمن الصلوات والأذكار والأناشيد الدينية والتسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار وغيرها من الأنشطة الروحانية التى تذكر الله وتحقق الروحانية لدى المؤمنين.
تاريخ "الحضرة" فى مصر وتطورها
وفى بداية ظهور الطرق الصوفية فى مصر، كانت حلقات الذكر أو "الحضرة" تُعقد فى الأضرحة والمقابر، وكان المشاركون يجلسون حول شيخ الطريقة الصوفية للقيام بالذكر وتلقى دروسه ونصائحه الروحية.
وخلال العصور اللاحقة، أصبحت حلقات الذكر الصوفية فى مصر أكثر انتشارًا وانفتاحًا على المجتمع المحلى، وبدأت فى العقد الثالث عشر الميلادى بالانتشار فى المساجد. وقد أصبح الذكر الصوفى جزءً من الحياة اليومية للمسلمين فى مصر، حيث يجتمع الناس فى المساجد للقيام بالذكر بشكل جماعى.
أما فى العصر الحديث، فقد تطورت حلقات الذكر الصوفية فى مصر بشكل كبير، وأصبحت تستخدم التكنولوجيا الحديثة مثل التليفزيون والإنترنت لبث الذكر وجعله متاحًا لأكبر عدد من الناس ممكن.
وتوجد فى الوقت الحاضر العديد من الطرق الصوفية فى مصر، وكل طريقة لها ممارساتها الخاصة بالذكر الصوفى، وتختلف أيضًا فى الأساليب التعليمية والممارسات الدينية والاجتماعية والثقافية. ومن بين هذه الطرق الصوفية الشاذلية والرفاعية والنقشبندية والبدوية وغيرها.
وتعتبر الحضرة الصوفية فى مصر الآن، جزءًا من التراث الدينى والثقافى للبلاد، وهى تشكل مجتمعًا دينيًا يرتاده الأتباع للتقرب من الله وتحقيق الروحانية. ولأن الطرق الصوفية فى مصر تعتبر من التيارات الدينية الأكثر شيوعًا فى البلاد، وتتميز بتركيزها على العناصر الروحية فى الدين الإسلامى، فإن لكل طريقة منهم طقوس وصلوات وأذكار وأناشيد دينية و"حضرة" مختلفة.
جلاء للقلوب وتصفية للنفوس
وبحسب دراسة بعنوان "الصوف.. دراسة فى المفهوم الدينى والممارسات الاجتماعية"، فإن أهل الطرق الصوفية أرجعوا تسميتهم للذكر باسم الحضرة إلى "المثول فى حضرة الله سبحانه وتعالى اقتداءً بحضرة النبي"، وكذلك ترجع إلى محاولة تخلص المريد أو التصوف من العالم الدنيوى حتى يتم له الحضور مع الله عز وعلا، ولذلك يفضل تسمية هذا الذكر الجماعى باسم الحضرة عندهم.
والحضرة من أهم الممارسات الجماعية لدى الصوفية وأكثرها تأثيرًا فى الربط بين أفراد الجماعة، وتوثيق علاقة المحبة بينهم، بالإضافة لدورها الفعال فى التأثير على كل فرد على حدة، إذ ترتبط بأسماء الله الحسنى، وبكل ما يتصل به التسبيح وتعظيم، فهى جلاء للقلوب وتصفية للنفوس، وضرورية للفرد بنمطيها الفردى والجماعى.
وتتمثل الواجبات الأساسية فى الدخول فى الحضرة في الطهارة من الحدث الأكبر، والطهارة من الحدث الأصغر، أما عدا ذلك فلا يوجد شرط لدخول الحضرة، بل يمكن لأى غريب دخولها دون أى قيود، فالحضرة حضرة الله ولا يملك أحد فيها شيئًا على الإطلاق، وهى تقام فى المساجد المختلفة تبعًا لمكان السكن والعمل لكل مريد مما يفسح المجال لمشاركة أى فرد خارج الجماعة أو الطريقة التى تقيها بالدخول فيها.
ويتخذ شكل الجلوس فى الحضرة شكل دائرة مع مراعاة جلوس المنشدين بجوار بعضهم البعض. وللإنشاد دور كبير فى التأثير فى قلوب المريدين، وتنشيط أرواحهم حتى عبروا عن أهميته قائلين: "إذا اعتبرنا الذكر روح التصوف فالإنشاد روح الذكر".
وبعد انتهاء الحضرة توزع ما يسمى بـ"النفحة"، وهى عبارة عن هدية إلهية تبدأ من مجرد الماء أو العطر أو الشاى أو الفاكهة، وفى الغالب تكون النفحة عبارة عن طعام، مثل الفتة والأرز باللبن وغيرهما من المأكولات، كل حسب قدرته وإمكانياته ونوع المناسبة التى دعا من أجلها إخوانه.
آداب الحضرة.. زمانها ومكانها
وبحسب دراسة بعنوان "الحضرة الصوفية لدى أتباع الطريقة الخلوتية الجودية.. قرية نزلة المشارقة نموذجًا" فإن للحضرة آداب لابد أن يلزمها السالك، ومنها: ألا ينتقل من مكان لآخر أثناء الحضرة، ولا يتمخط ولا يتفل، وتزامن خروج الأصوات ومناسبتها لبعض لعدم الشذوذ، وتناول الماء بعد الذكر بحوالى نصف ساعة كى لا تطفئ حرارة الذكر، ونزول الحضرة ببال خال من الأفكار، فإذا خطر لك خاطر لابد أن تراجع شيخك وتستشيره، والتعلق بأرواح الحاضرين، واستحضار صورة شيخك بين عينيك، وعدم مشاركة النساء فى حضرات الرجال، والسماح لأصحاب الطرق الأخرى بالمشاركة فى الحضرة، ويجب على المريد الذى يشارك جماعة من طريقة ليست طريقته ألا يعترض على أورادهم وأذكارهم أو حتى مشاركة النساء لأن البساط أحمدى.
وعن زمان الحضرة، فإنها تقام فى أى وقت يريده السالك، وجرتِ العادة على إحياء الحضرة الصوفية بصورة دورية، وفى أوقات مناسبة تتسم بالبركة مثل ليلة الجمعة وعقب صلاتها، واثنى عشر يومًا من بداية ربيع الأول بمناسبة المولد النبوى، وموالد الأولياء، والذكرى السنوية لوفاة أحد السالكين.
أما عن مكان الحضرة، فثمة أشخاص ليسوا من أهل الطريقة يحبون إقامة الحضرة فى بيوتهم، يدعون نقيب الحضرة، وبدوره يُخبر المريدين، يجتمعون فى مكان معروف متفق عليه، يتفقدهم النقيب، يسأل عن الغائب ويرسل فى طلبه، يلتمس العذر لأصحاب الشواغل والمرضى، ينتظر المتأخر، وفى النهاية يتوجهون لمكان صاحب الدعوة. ومكان الحضرة يتسم بالنظافة والطهارة مثل أماكن الصلاة تمامًا، ودائما ما يخلى لهم صاحب البيت حجرة إلا من حصير أو سجاد يغطى أرضية الحجرة، فيجلسون متجاورين فى حلقة يسندون ظهورهم لجدران الحجرة.
أناشيد وأذكار
وتشير الدراسة المنشورة فى مجلة الثقافة الشعبية، إلى أن بعد توزيع الطعام والشراب وإطلاق البخور؛ تبدأ الحضرة بقراءة الفاتحة، حيث يقرأ السالك الفاتحة أكثر من مرة، وفى مرة يهب ثوابها للصالحين، وفى مرة للأولياء، وللمشايخ الذين لقنوا المريد العهد (أعمامنا فى الطريق)، وللمريدين والأتباع، وللحاضرين، ولأهل البيت الذين يستضيفون الحضرة، جيران البيت، الكبار والصغار، أهل القرية جميعا، للمرضى، وأئمة المسلمين لصلاح الحال.
وقراءة الفاتحة تعقب قول الشيخ: مشايخنا ومشايخكم أعمامنا وأعمامكم لهم منا سر ثواب الفاتحة، وأهل البيت والجيران وجيران الجيران وأهل البلد كبير وصغير لهم منا سر ثواب الفاتحة.
ثم يأتى بعد قراءة الفاتحة ذكر الأقطاب الأربعة والتماس البركة منهم، وهم الرفاعى والبدوى والجيلانى والدسوقى. ويدعون لكل أصحابهم وأتباعهم، والدعاء واجب لكل المريدين والسالكين فلا فرق بين مريدى طريقة وطريقة أخرى، فالكل يسلك الطريق إلى الله، وهذا تسامح واضح وجلى فى الفكر الصوفى العملى.
ثم قراءة جماعية لدعاء كفارة المجلس، وسورة تبارك، والفاتحة، وآية الكرسى، لتنطلق بعدها الصلوات أو الإنشاد الجماعى، حيث يصلون على النبى بصوت مرتفع، وغناء جماعى للصيغة التى يلتزمون بها.
شخصيات الحضرة وأدوراهم
خلال الحضرة نشهد أشخاصًا فى أدوار مختلفة بجانب الدور الرئيسى وهو "شيخ الحضرة" الذى يقودها، كـ"الخادم" وهو يختص دون غيره بتقديم الطعام والشراب، ويسبق الكل لمكان إقامة الحضرة فيطمئن على الترتيب لها، يُثَّبِت مكبر الصوت، ويطمئن على خلوه من الأعطال. و"نقيب الحضرة" وهو الذى يفتتح المجلس، والدعوة له، ويعتبر نائب الشيخ وصاحب سره.
بالإضافة لـ"المنشد" وهو الذى يتمايل طربًا بما ينشده، لكنه لا ينتظم مع الدراويش فى حركاتهم، وظيفته الغناء والإنشاد فى حب السيد الطاهر، وعن الأخلاق، ووسائل تربية النفس. والمنشد معروف بين كل أتباع الطريقة بـ"ملح الطعام"، وكل مقطوعة ينشدها لها بداية ونهاية يعقبها توقف فهى وصل.
وكذلك "الساند أو المساعد" حيث يحتاج المنشد يحتاج إلى من يخفف عنه ويريحه وقت الإنشاد، ويحتاج إلى من يقوى صوته ويدعمه فى نفس الوقت، هذا دور الساند، يكون إلى جوار المنشد واحد أو اثنان كلاهما حسن الصوت، يرددان الذكر ويتمايلان فى انتظام مع البقية.
فضلًا عن "ماسك الجلسة" أو صاحب الدقة، وهو شخص يقف فى مركز الدائرة -حلقة الدراويش- ووظائفه مثيرة للاهتمام حيث يقوم بتحديد شكل الحركة التى يؤديها الجميع فى الحضرة. وأخيرًا "الذاكر أو السالك أو الدرويش أو المنشد"، وهو عمود الحضرة والمكوِّن الأساسى لها.
والذاكرون يتلذذون بالمدائح النبوية، وأشعار التربية، ورياضة النفس، والنجاة بالتوحيد، ويأتمرون بصاحب الدقة، يرقصون، يتواجدون، يكررون (الله الله) لا يغيرونها ولا يتوقفون حين يغنى المنشد، يغمضون العين ويسبحون فى ملكوت الله، يشعرون بأسرار لا سبيل إلى معرفتها إلا بالتجربة، فهى شيء باطنى لا يقع تحت المشاهدة والملاحظة لذلك قالت الصوفية "من ذاق عرف ومن عرف اغترف".