في أحلك اللحظات وأكثرها تعقيدا، لا تتأخر المؤسسة الدينية المصرية، في أزهرها وكنيستها، عن إبراز موقفها الوطني والدفاع عنه بوصفه واجبا أصيلا ومتينا لا يحتمل التباطؤ أو التكاسل، أو رفع شعارات جوفاء تحمل في بريقها الحياد وفي جوهرها التدمير والخراب، وهو ما تجلى واضحًا في موقف كل من الأزهر الشريف والكنيسة المجيدة إبان اللحظة التاريخية الحاسمة التي غيرت وجه المنطقة في الثلاثين من يونيو للعام ٢٠١٣، حينما دعمت المؤسسة الدينية بشقيها الأزهر والكنيسة تطلعات الشارع المصري في إقصاء جماعة الإخوان الإرهابية عن السلطة، وأعلنتا دعمهما لبيان ٣يوليو من نفس العام، الأمر الذي أعقبه تطاول شرس من عناصر الجماعة الإرهابية تجاه الأزهر، وبصورة أكثر عنفًا وشراسة تجاه الكنائس التي تعرضت للحرق والتفجير، نتج عنه العديد من الشهداء والمصابين.
الأزهر.. مقاومة المحتل ومواجهة انحراف الجماعات
لا يمكن لأي مصري أن يتجاهل الدور الوطني الذي التزمه الأزهر الشريف منذ مئات السنين، حيث ظل صامدا في وجه المستعمر الفرنسي والإنجليزي، ومعبرا عن قضايا المصريين في أكثر من مناسبة، كما أنه ظل ملتزما بخط الوسطية معبرا عن رفضه لانحرافات جماعات الإسلام السياسي وتطرفها، إذ أعلن الأزهر في أكثر من مناسبة وأبرزها مؤتمره الذي عقده في عام ٢٠٢٠ حول تجديد الفكر الإسلامي عن رأيه بوضوح في المسائل التي تستغلها الجماعات المتطرفة وتبرزها بمفهوم ملتبس ومضلل لاستغلال الشباب وخاصة المتحمسين والمندفعين بمشاعر دينية تعتمد على معلومات ومعارف سطحية مأخوذة من شخصيات مُضللة واحتيالية تلعب بالشباب وتزج به في أتون مستعرة لا يعرفون حقيقتها ولا من يمولها ويستفيد من اشتعالها واستمرارها في بقاع مختلفة.
بالعودة إلى تاريخ الأزهر الحافل نكتشف أنه طوال تاريخه والإمام الأكبر صاحب منصب شيخ الجامع الأزهر يتولى أمر التعبير عن مطالب الناس، وإسقاط الولاة العثمانيين الطغاة، إلى جانب تبني المشروع الوطني متمثلا في زوال الاحتلال واستقلال البلاد.
إبان وصول الحملة الفرنسية إلى مصر فإن مقاومة المحتل كانت من جميع الأحرار في مصر، ولعب الأزهر دورا بارزا ومحوريا في تحريض على العامة على الفرنسيين، ونتج عن ذلك انتفاضات شعبية عارمة منها ثورة القاهرة الأولى في العام ١٧٩٨ وثورة القاهرة الثانية عام ١٨٠٠، وصمم نابليون على معاقبة الطلبة الأزهريين وشيوخ الجامع فدخل مدينة القاهرة ونصب مدافعه باتجاه متاريس المقاومة، كما اقتحم الأزهر وخربوا بعض النقوش والآيات التي كانت معلقة على جدرانه، كما استباحوا دماء الطلبة والعامة المتحصنة بداخله، كما تم إلقاء القبض على بعض المحرضين ثم أدينوا وأعدموا.
وبعد اغتيال القائد الثاني للحملة الفرنسية كليبر على يد شاب حلبي اسمه سليمان، أغلق قادة الحملة الجامع الأزهر لتفادي ثوراته وانتفاضاته التي أقلقت جنود المحتل طوال فترة تواجدهم في مصر.
في سابقة خطيرة، تجمع علماء ومشايخ الأزهر وأعلنوا ثقتهم في تولية محمد علي واليا على مصر عام ١٨٠٥، في خطوة تبرز التحدي الصارخ أمام السلطنة العثمانية.
كما لعب دورا شديد الأهمية في تزعم الثورة الشعبية التي خرجت لمساندة الوفد المصري وزعيمه الأول سعد زغلول، المعروف أيضا بانتمائه للأزهر، حيث خرجت المظاهرات تعم البلاد حاملة آمال الشعب في حق تقرير مصيره ورفع الحماية عن مصر وإعطائها حقها في الاستقلال، وتوالت المظاهرات الغاضبة من الشباب والطلبة الأزهريين.
وفي عهد الشيخ محمد مصطفى المراغي أعلن موقفه الرافض لجر مصر إلى ويلات الحرب العالمية الثانية من خلال ضغط بريطانيا على القاهرة لإعلان الحرب على دول المحور. وذلك في المدة الثانية لتوليه مشيخة الأزهر وانتهت مع رحيله في العام ١٩٤٥.
في عام ١٩٥٦، كانت مصر على موعد مع خطبة حماسية ونارية من الرئيس جمال عبدالناصر الذي أعلن فيها استمرار المقاومة الشعبية وصمودها أمام العدوان الثلاثي على مصر، وذلك من فوق منبر الجامع الأزهر.
في الانتصارات اليومية المتوالية للجنود في حرب الاستنزاف التي أعقبت نكسة يونيو عام ١٩٦٧، تردد عدد من مشايخ الأزهر على جبهة القتال وألهبوا الحماسة في نفوس المقاتلين، كما عملوا على رفع الروح المعنوية لديهم لكسب مزيد من الانتصارات، كما توثق لنا مجموعة من الصور زيارة شيخ الأزهر عبدالحليم محمود لجبهة القتال في عام ١٩٧٣.
ونقلا عن الموقع الرسمي للجامع الأزهر، فإن الأزهر ظل القلعة التي تحطمت على أبوابها أمال الحملة الفرنسية في البقاء في مصر، وقاد علماؤه البلاد في فترة الفراغ السياسي التي أعقبت خروج الفرنسيين، واختاروا محمد علي ليكون حاكمًا على البلاد، وذلك وفق الشروط التي اتخذوها عليه من إقامة العدل وعدم فرض الضرائب ومشورتهم في القرارات التي تخص عامة الشعب... وغير ذلك، كما مَثَّل الجامع الأزهر حائط الصد المنيع الذي وقف في وجه حملة فريزر الإنجليزية عام ١٨٠٧م، وضرب علماؤه أروع الأمثلة في الوطنية في مساندة الثورة العُرابيَّة عام ١٨٨٢م والمشاركة فيها، مواصلًا دوره الوطني الباسل والراسخ الذي سجله التاريخ بمدادٍ من ذهب في أحداث ثورة عام ١٩١٩م، وإبان الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ ـــ ١٩٤٥م) من عدم الزج بالبلاد في الحرب وتجنيبها ويلاتها، والدور الوطني الباسل على كافة المستويات إبان العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦م.
مواجهة التفسير الغاضب للدين
وحول دور الأزهر الشريف في تتبع انحراف الجماعات المتطرفة والرد عليها، ذكر الدكتور أسامة الأزهري في مقدمة كتابه "الحق المبين في الرد على من تلاعب بالدين"، أن الأزهر سخر موارده المعرفية الأصيلة في مراقبة وتأمل ما أنتجته التيارات من أطروحات واستدلال وفهم للوحيين، وتنزيل له على الوقائع على ميزان العلم العميق المؤصل، فما ترك حادثة ولا نازلة إلا وقد رصدها ولاحقها، وعكف على فحصها وتحليلها، وإبداء الرأي فيها، لربما اشتهر نتاج ذلك وذاع، ولربما خفي جهده في ذلك وتوارى نتيجة عدم الخدمة التوثيقية والأرشفة والتوصيل الإعلامي وما أشبه.
ويتعلق بالأزهر اليوم الدور الوطني الخاص بمواجهة الفكر المتطرف والفكر الجامد، لما له من تأثير مدمر وتخريبي، أشار إليه أسامة الأزهري موضحا أن العصر شهد بعثا لفكر التكفير الذي كان كامنا في كتب التيارات المتطرفة، فتم تحويله إلى تنظيمات وجماعات وتطبيقات، مما أفضى بنا إلى تيارات تقطع الرقاب، وتسفك الدماء، وتروع الآمنين، وتنقض العهود، وتمتهن دين الله، وتلص به أفهامها المتحيرة وتفسيراتها الفادحة، مما يمكن تسميته بظاهرة التفسير الغاضب للقرآن الكريم.
الكنيسة.. مساندة وطنية حقيقية ومواقف تاريخية
في عيد الميلاد المجيد الماضي، كرر الرئيس عبدالفتاح السيسي إشادته بمواقف قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، حيث أكد الرئيس على احترامه وتقديره ومحبته له، وأن قداسة البابا تواضروس الثاني له قيمة كبيرة لدى الجميع، مشيرا إلى أن الرجال توزن بالمواقف والظروف الصعبة.
ومواقف قداسة البابا لا يمكن تجاهلها إطلاقا لما للبابا من حكمة شديدة في التعامل مع الأزمات، وانتباهه اللافت إلى صورة مصر بالخارج خاصة بعد إزاحة حكم الجماعة الإرهابية وقيامه بدور سياسي فريد في شرح الموقف المصري وتوضيح الصورة للآخرين.
يتخيل المستعمر بداية من الحملات الصليبية على المنطقة بأكملها والتي تصدت لها مصر جيدا، أنه بإمكان استمالة المصريين المسيحيين بوصفهم طائفة أو أقلية أو جسم معزول عن الوطن، يمكن استمالته واللعب على وتر الفتنة بين المسلمين والمسيحين كي يدخلوا تحت جناح المحتل فيصنع شقاقا كبيرا وتصدعا داخل الجسد الوطني الواحد، لكنه باء بالفشل مرارا. وضرب الأقباط الأمثلة دائما في الالتحام مع إخوانهم المسلمين فى الدفاع عن الوطن ضد أى معتد أجنبي.
حول هذا الدور، جاء في كتاب "الدور الوطني للكنيسة المصرية" أن الدكتور يونان لبيب رزق شرح موقف الأقباط أنهم لم ينظروا للاحتلال على أساس وحدة الدين وقد قاومت الكنيسة الإرساليات التبشيرية الغربية وبعد أن كان الإنجليز يعملون على استمالة الأقباط والكنيسة للتعاون معهم تحول موقفهم بعد أن تأكدوا من فشلهم فى ذلك وأصبحوا يبادلون الكنيسة العداء".
وكان البابا كيرلس الخامس قد عاصر ودعم كلا من الثورة العرابية وثورة ١٩١٩، ولقى من وراء هزيمة الثورة العرابية مضايقات كثيرة رغم تكوينه لجنة للدفاع عن ثورة أحمد عرابي، إلا أن الأمور لم تنته لصالحه وجاءت عليه بالتجريد والنفي حتى وفاته في العام ١٩٢٧.
وحول دور البابا كيرلس الخامس، شرح الدكتور خيري فرجاني في كتابه "الدور الوطني للكنيسة المصرية"، أنه في ذروة الثورة العرابية ووقت ان كان الخليفة العثمانى يطعن زعيمها احمد عرابى من الخلف، ويصدر إعلانا بعصيانه وخروجه على الطاعة السلطانية، كانت الكنيسة المصرية بقيادة البابا كيرلس وكل الوطنيين المصريين يضعون أيديهم فى يد عرابى ضد الجيش الإنجليزي القادم لاحتلال مصر بحجة حماية الخديوي. كان لمواقفه فى دعم الثورة العرابية عظيم الأثر فى مواجهة قوى الاحتلال البريطانى ومن أقواله المأثورة فى ذلك: "إن الإنجليز ليس مجرد معتدين، بل إنهم مكمن للخطر على البلاد"، وكان من الموقعين على العريضة التى تطالب بخلع الخديوي توفيق لاستدعائه الإنجليز لمواجهة المصريين. وكمثل باباوات الكنيسة أثناء الحملات الصليبية.. لم يهتم كيرلس بديانة الإنجليز بل اعتبرهم مجرد غزاة طامعين فى خيرات بلاده، لذلك نادى أبناءه بالتوحد خلف عرابى ومقاومة الغزاة الإنجليز.
ولا يمكن تجاهل دور القساوسة الذين ساندوا مطالب شعبهم في ثورة ١٩١٩ وبعضهم خطب على منبر الجامع الأزهر، وتوحدت الأمة في نسيج واحد للتعبير عن قوميتها الحقيقية ووحددتها الصادقة، كما وقفت إلى جوار الشعب الحزين لسقوط الحلم العروبي عقب نكسة ١٩٦٧ وصولا لمرحلة النصر والعبور في العام ١٩٧٣، حيث تحتفظ وثائق الصور بزيارة البابا شنودة الثالث لجبهة القتال وتحميسه للجنود ورفع معنوياتهم، كما لعبت الراهبات دورا في زيارة الجرحى وتقديم الرعاية الطبية للمصابين من الجنود، فضلا عن قيام بعض القساوسة بجمع التبرعات للمجهود الحربي، حيث شهدت مصر ملحمة من التكاتف والوحدة في الدفاع عن الأرض والعرض واسترداد الكرامة.
وبالعودة إلى فرحات فرجاني الذي أشار للدور السياسي قائلا إن الكنيسة المصرية القبطية وإن كانت من الكنائس المصنفة بكونها كنائس وطنية محلية، أى محصورة فى منطقة جغرافية معينة، بيد أنها وبفضل التحرك الفعال للكنيسة المصرية خارج حدود الوطن مصر لرعاية شئون أبنائها فى الخارج، الذى تزايد عددهم بفعل حركات الهجرة النشطة فى السنوات الأخيرة، ومن ثم أصبحت ذات وجود جد هام وعالمى منتشر فى جميع أصقاع الأرض.
ولتوضيح الصورة أكثر عن الدور السياسي فإن قداسة البابا تواضروس الثاني كان قد زار كل من اليابان وأستراليا في عام ٢٠١٧ وقد تمكن من إجراء نحو ٨ حوارات صحفية وتلفزيونية وإذاعية، حرص فيها على الإجابة عن أسئلة الإعلام الغربى حول الأوضاع فى مصر، وعلاقة المسلمين والأقباط لتصحيح صورة مصر فى الخارج، وإبطال مزاعم الإعلام العالمى حولها، فضلا عن لقاء عدة مسئولين مثل وزير الخارجية الياباني، ورئيس مجلس الشيوخ في استراليا والحاكم العام في الأخيرة، حيث أقيم له استقبال ضخم استغله قداسة البابا في الدفاع عن صورة مصر خارجيا والتعبير عن موقفها الواحد والرافض للتدخلات الخارجية في شئونها الداخلية، أو حتى محاولة المساس بوحدتها الوطنية.