تم إقصاء المماليك وتفاعل المصريون مع المحتل الوافد بلغته وثقافته المختلفة فتمردوا عليه وتظاهروا ضده فى ثورتى القاهرة الأولى والثانية
بمجرد أن تكتب على محرك البحث جوجل كلمتى المطبعة والبندقية سيظهر لك مطبعة نابليون، ومدينة البندقية.
وكأنه ليس هناك سوى مطبعة الجنرال الفرنسى فاستحوذت على المعنى والبحث، ومدينة البندقية تلك المدينة العتيقة موطن المطبعة الأولى فى العالم، وكأن هناك علاقة خفية بين الكلمتين بين الطباعة والمدينة أو بين الكلمة التى هى بنت المطبعة والعمران والتحضر.
لم يكن هذا ما أقصده عندما قررت أن أكتب عن المطبعة والبندقية، بل كنت أفكر فى نوعين من الأسلحة جاءت بهما حملة نابليون بونابرت إلى مصر نهاية القرن الثامن عشر، السلاح الأول هو المطبعة كآداة للترويج لأفكاره كمحتل واستثمرها كوسيلة للتواصل والتحدث مع المصريين بطبع منشورات ولا يستنكف أن يبدأها (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له فى ملكه، من طرف الفرنساوية المبنى على الحرية والتسوية) ثم يخاطبهم مباشرة (يا أيها المصريون قد قيل لكم، إننى ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إننى ما قدمت إليكم إلا لأخلِّص لكم حقكم من يد الظالمين، وإننى أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه الكريم والقرآن العظيم ) أما السلاح الثانى فهو البندقية بمعنى الأسلحة والرصاص، هذه الثنائية التى كانت رأس الحربة فى السيطرة وإخضاع المصريين وحكامهم بالإنابة المهزومين المماليك (كان المماليك يحكمون مصر - الولاية العثمانية - بمرسوم من السلطان العثمانى، يجدد كل ثلاث سنوات باعتماد الحاكم نفسه أو تغييره).
اكتشف المصريون وقتها ضعف تلك النخبة الحاكمة التى قفزت من النوافذ على السلطة بالحيل والتسلل، والتى ذاقوا على يديها مرارات القهر والإفقار وفرض الضرائب الباهظة وشهدت القاهرة صراعاتهم على الحكم والتزلف للسلطان والباب العالى بالهدايا والرشاوى فكان سقوطهم مسألة وقت بعدما نخر الفساد فى بلاط الحكم.
تم إقصاء المماليك وطويت صفحتهم ليتفاعل المصريون مع المحتل، الوافد بلغته وثقافته المختلفة، فتمردوا عليه وتظاهروا ضده فى ثورتين متتابعتين عرفت بالقاهرة الأولى والثانية، حقيقة كان الرفض هو الذى فرض كلمته فى العلاقة بين الطرفين، لكن ما لا يمكن إغفاله تلك الحقائق التى بدأت تتكشف، وسقوط ورقة التوت عن نخبة حاكمة عقيمة متخلفة تنتمى لماضٍ فرضته على المصريين، صوت البندقية والمدافع والرصاص كان فاضحا وكاشفا لمن يركبون الخيول ويشهرون السيوف أمام عموم المصريين، تفتحت العقول والعيون على حداثة تتحدى وتطور يجرى وعالم آخر هم بالفعل خارج سياقه ومكوناته على الجانب الآخر من المتوسط.
إعادة تقييم المماليك جرت خلال السنوات الثلاث (هى عمر الحملة الفرنسية) وبمجرد رحيل الفرنسيين لم يكن مقبولًا عودتهم ليحكموا مصر والمصريين فقد ألقت الحملة بظلالها على الشخصية المصرية التى ثارت فى وجه الحملة، واستفادت من تجربة المشاركة فى الحكم وإدارة شؤون البلد من خلال ديوان القاهرة الذى أسسه نابليون من تسعة أعضاء وضم كبار العلماء والمشايخ وعلى رأسهم عبد الله الشرقاوى، أعاد المصريون اكتشاف أنفسهم بعد إلغاء السُخرة (العمل الإجبارى لدى الأعيان والبكوات وفى مشروعات الدولة من حفر ترع وإقامة جسور) واستردوا كبرياءهم الوطنى بعد أن أدركوا أن الآخر (الفرنسى) ليس كله شرًا مطلقًا، انعكس حصاد هذا الاشتباك مع الحملة فيما أقدم عليه المصريون ونخبتهم (كبار العلماء والشيوخ) عندما قرروا لأول مرة فى تاريخهم مصير من يحكمهم فلم يعد القرار بفرمان من الباب العالى والسلطان العثمانى بل لهم رأى ورؤية، وبالفعل توافقوا على الجندى الألبانى المسيس - الذى نجح فى أن يكون فى صدارة المشهد - ليتولى شؤونهم، جاءوا به وفرضوه وأجلسوه حاكمًا بشروطهم ووفق أجندتهم غير أنه سرعان ما انقلب على الجميع ليعلن انفراده بالسلطة والحكم والقرار بلا مراجعة وبلا رقابة شعبية وأطاح بكل خصومه من بقايا قادة المماليك وظل يحكم مصر منذ ١٨٠٥ حتى ١٨٤٠ وتوارث أبناؤه الحكم من بعده حتى قيام ثورة يوليو وشهدت مصر خلال تلك العقود (حكم الأسرة العلوية) تجربة [بناء مصر الحديثة ].
هكذا جاء التأثير والتغيير مع الاحتلال، الذى ترك بصماته وآثاره وأعطى درسًا للمصريين أعادهم للتاريخ، مع إنتاجه العلمى والثقافى بموسوعة وصف مصر (٢٠ مجلدًا) والمجمع العلمى، وتطبيق تسجيل (المواليد والوفيات)، مع إزاحة نخبة حاكمة صعدت دون وجه حق للسلطة، وفرض الشعب لإرادته عبر ممثليه من كبار العلماء والمشايخ والأعيان، وكانت مصر على موعد مع نهضة غير مسبوقة فى كل المجالات وعلى كل الأصعدة، لكن لم تدر عجلة التاريخ كما أراد المصريون لسببين: الأول الرغبة فى السيطرة على زمام الأمور فى يد حاكم أعلن نفسه الزارع الوحيد والتاجر الوحيد والمالك الوحيد لأراضى ومقدرات مصر، والثانى تلك التحالفات والصفقات الدولية التى حجمت مشروع محمد على وأطاحت بأحلامه ووأدت التجربة بعد ٣٥ عاما بمعاهدة لندن، ويظل مشروع نهضة مصر ماثلًا يراودنا ونستدعيه لنحكى ما جرى لنعلم كيف.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي: