صار لزاما على النخب وقادة الفكر وصناع الرأي في مصر، من كل المشارب والحقول والاتجاهات، ومن كل القطاعات، وخاصة من قطاع المجتمع المدني بوجه التحديد، أن يضعوا على رأس أولوياتهم اليوم، صناعة الأجيال قبل فوات الأوان، وليعملوا جاهدين على إعادة ضبط بوصلة القيم التي أوشكت على التفكك والاندثار.
لقد بات الأمر واجبا وطنيا مقدسا، يتصف القاعدُ عن أدائه بالتخاذل في حق الوطن، بل لا نغلو في شيء، إن رفعناه إلى مقام الفرائض الدينية، وهو كذلك دون مراء أو جدل، بعد أن تفشت في ثنايا مجتمعنا أمراض وأوبئة خطيرة، لم يكن لنا بها عهد في السابق، إلا فيما ندر من الحالات الاستثنائية الشاذة.
لقد أرعبتنا تلك الصور المروعة التي رأيناها في مشاهد مصورة ، من خلال السوشيال ميديا بعد مقتل شابتين فى ريعان الشباب على يد زملائهم بعد قصص حب لا نعلم تفاصيلها وصدق رواياتها.
ثم آلمنا كثيرا ما رأيناه اليوم، من صور ومشاهد مؤسفة، في منصات التواصل الاجتماعي لمحاولة الإغتيال المعنوي لشخصيات مصرية عظيمة على صفحات السوشيال ميديا، من طرف جمهور فاقد لمعالم الوعي، وفضائل الاعتراف بجميل الآخرين، لمجرد الأختلاف الفكرى فى أراء اجتماعية او ثقافية.
وكثيرا ما صُدمنا في الآونة الأخيرة، من شواهد ونماذج مرضية أخرى باتت عنوانا فاقعا لفشلنا الذريع، في نقل قيمنا الدينية والتاريخية والوطنية - التي تعد حجر الأساس في هذا البناء - الى الأجيال الجديدة، وتحصين منظوماتنا الوطنية باختلاف أنواعها، سواء كانت تربوية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية، بما يضمن لها أسباب الحماية والبقاء والصمود، أمام طوفان الاستقطاب الأرعن، والتيارات الهدامة التي كشرت عن أنيابها لالتهام الجميع، شعوبًا ودولًا وحكوماتٍ، وفي مقدمتها تيارات التفسخ والعنف والمثلية التي باتت موضوعات مركزية لشبكات التواصل الاجتماعي، إلاَّ فيما قَلّ من أصوات وضمائر إنسانية حية، أعياها النصح والتنبيه والصراخ، في وجه براكين الدمار والتحلل والانحلال، ولعل شبكة التيك توك، ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة صارت تزرع خراب مريع في أوساط المجتمع، في كل يوم بل في كل ثانية، خير مثال على جسامة التحدي وخطورة الوضع.
فالذي تبذله الأسرة والمدرسة والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية على السواء، من جهود مضنية وميزانيات ضخمة على امتداد سنوات طوال، في سبيل بناء هذا الانسان المنشود، يدمِّره التيك توك، وغير التيك توك، في نصف ساعة.
وليس من باب المبالغة، إن قلت بإن الشطر الأكبر من المسؤولية في هذا البناء المأمول - وإن كانت المسؤولية عموما تقع على الجميع - إنما تتحمله مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته أكثر من غيرها، بسبب قربها الشديد من نبض الشارع، بكل أطيافه وتفاصيله، وسرعة تأثيرها على الفئات العمرية الصغرى من المواطنين، في ظل المكانة المرموقة التي بات يحتلها قطاع المجتمع المدني في برامج الحكومة وقوانين الدولة ودستور البلاد، في الجمهورية الجديدة.
ولا أقصد هنا بمؤسسات المجتمع المدني، تخصيص المنظمات والجمعيات الوطنية باحتكار هذه تسمية المجتمع المدني دون غيرها ، فهذه نظرة نمطية قاصرة، لطالما نادينا بوجوب تصحيحها، بما يضع المصطلحات والمفاهيم في سياقها السليم، إذ أن الجمعيات بكل أصنافها، لا تشكل إلا رافدا من روافد المجتمع المدني، وليست هي كل المجتمع المدني، أي ليس لها الحق في احتكار التسمية، كما هو شائع في خطاباتنا الإعلامية والسياسية بوجه عام، وحتى في خطاباتنا الجامعية المتخصصة للأسف الشديد، وإنما أقصد كل روافد ومكونات المجتمع المدني بلا استثناء، كما يعرفه العالم في عصرنا الراهن، بما في ذلك المؤسسات الإعلامية، التقليدية منها والحديثة إلى جانب أطياف المجتمع الأخرى الأكثر تأثيرا وفاعلية، مثل الشيوخ والوجهاء والعمد والمشايخ ورؤساء المؤسسات الإقتصادية والتجارية، ونوادي الرياضة والثقافة والفن ورموزها، دون أن ننسى نجوم السوشيال ميديا، ممن صارت الأجيال الجديدة تتخذهم عنوانا للنجاح، وقدوة مثالية، في كل تفاصيل حياتهم، وأتحدث هنا عما يسمى بالمؤثرين من النماذج المصرية الخالصة والمرموقة، ولا أتحدث طبعا عن العاهات ممن باتوا يشكلون خطرا حقيقيا يهدد أركان المجتمع، بل طامة كبرى يجب التصدي لها بكل الطرق والوسائل.
وعلى هؤلاء مجتمعين، يقع الشطر الأكبر من هذه المسؤولية الثقيلة، بعد أن تغير مفهوم القدوة في عصرنا الراهن تغيرا جذريا، وأتخذ أشكالا ومفاهيم جديدة يجب فهمها وتقبلها، وتطويعها قدر الامكان لخدمة هذه القيم، وتسخيرها للمساهمة رفقة باقي أطياف المجتمع ومؤسسات الدولة، في مهمة بناء الإنسان، وإعداد الأجيال الصاعدة وتأطيرها، وفق مرجعياتنا الدينية والوطنية، وعدم التساهل في مواجهة العوائق البشرية الشوهاء التي ستسارع حتما، إلى اعتراض طريق هذه المهمة دون خجل أو حياء، وتسعى بكل ما أوتيت من قوة وجاذبية وانتشار في أوساط الشباب، إلى عرقلتها وإفشالها في نهاية المطاف.
وختاما نقول، إن بناء الإنسان وخصوصا الشباب والأطفال، أصبح ضروريآ ضمن نوافذ العصر الحديث ومنصات الإعلام، فلنبادر جميعا إلى هذا البنيان قبل فوات الأوان.