ربما البابا ذاته لا يعرف ما سيحمله له عامه العاشر على رأس الكنيسة الكاثوليكية، ولكنه وبخبرته الروحية العميقة من تمييز النداءات الباطنية كما اصطلح عليه اليسوعيون أتباع أغناطيوس دي لويولا والذي هو -فرنسيس- واحد منهم وربما خبير في التمييز الإغناطي، لا يكف عن اتباع هذا النمط من الوعي الذاتي والروحي بتذكير ذاته والآخرين دومًا بالانتباه للأوقات التي يجب على المرء أن يتراجع للخلف أو يتنحى مُفسحًا المجال لعمل الرب ودعوة في الاستمرار.
مثل هذه دعوة ذاتية، شارك بها البابا فرنسيس الكنيسة في عظة صلاة التبشير الملائكي، يوم الأحد الماضي 15 يناير 2023، وكان قد تحدث عن ذات الأمر في أغسطس الماضي، عندما تحدث عن فضيلة الباباوات الذين اختاروا التخلي عن مسئوليتهم لأجل استمرار مسيرة وإرسالية الكنيسة.
البعض ذهبوا لافتراض أن البابا سيستقيل أو يمهد للاستقالة، ومجددًا فهو لم يغلق هذا البابا تمامًا، ولكن إجابته كانت قاطعة للصحفيين العائدين معه من رحلته إلى كندا: «باب الاستقالة أمامي ولكنني لم أطرقه حتى الآن».
بعد نياحة بنيدكتوس السادس عشر، البابا الشرفي للكنيسة الكاثوليكية، مع اليوم الأخير من العام 2022، بدأ الكثير ممن يريدون الإطاحة بالبابا الأرجنتيني الذي بشكل أو بآخر هو أحد أعظم ثمار اتضاع البابا الألماني، وفي مقدمة هذه الإطاحة يطرحون السؤال وربما الرغبة الدفينة بداخلهم: «ألم يحن الدور على فرنسيس للتنحي هو أيضًا؟»، مثل هذا السؤال ربما يرتدي ثوب الحشمة فيظهر في أطروحة مغايرة مثل: «هل البابا ذو الستة وثمانون عامًا صاحب العكاز والكرسي المتحرك سيستطيع قيادة الكنيسة بذات المنهجية الفقيرة والتشاركية السنودسية التي طالما عمل لأجل إرسائها لاستبدال تلك البالية المركزية المتحجرة؟». السؤال الأخير وعلى الرغم من حشمته لكنه يفترض في باطنه أيضًا دعوة سائليه للتخلص من البابا فرنسيس الذين يرفضون طريقة قيادته للكنيسة والذي بغياب البابا بنيدكتوس، عن المشهد الظل بات «فرنسيس» الرجل الوحيد ذو الثوب والقبعة البيضاء بالفاتيكان.
إن ملخص الإشاعات الدائرة بين المهتمين بأحوال الفاتيكان وبصفة خاصة المراقبين لبابوية خورخيه ماريو بيرجوليو «البابا فرنسيس» تدفع إلى استخلاص واضح بأن كلًا من التقليدين من رجال الدين الكرادلة والأساقفة والكهنة وحتى العلمانين جميعًا الرافضين لطريقة قيادة البابا فرنسيس للكنيسة منذ بدايته، بالإضافة إلى التقدميين الذين يتطلعون متطلبين لـ«فرنسيس» أن يقوم بإصلاحات دراماتيكية فيما يتعلق بقضايا زواج الكهنة وتناول المطلقين والمثليين، مُستغلًا غياب البابا بنيدكتوس عن المشهد والذي كان بالنسبة لهم عائق في سبيل حرية حركة البابا فرنسيس في إحداث تقدم ملحوظ بشأن ملفات شائكة يجب عليه البت فيها.
كل من التيارات الكاثوليكية المتشددة من التقليديين والتقدميين يريدون أن يقوم «فرنسيس» بما يريدون هم وليس بما تريد الكنيسة تحت قيادة الروح القدس وليس تحت قيادة أجندات مصالح خاصة أو بحسب البابا أيدولوجيات مجوفة المضمون، وفي ضوء ذلك كله تزداد دائرة الإشاعات والاستنتاجات بشأن استقالة البابا، إشاعات يصدرها أطراف الدوائر اليمينية واليسارية التي تريد أن يذهب «فرنسيس» ليأتي بعده من يقوم بما لم يريد هو أن يقوم به لأجل أولئك أو هؤلاء.
ومن ثم فالسؤال الأعمق هو ما رسالة وإرسالية البابا فرنسيس والكنيسة الكاثوليكية والمسيحيين خلال العام العاشر لبابويته؟ ماذا سيفعل؟ أين سيذهب؟ كيف ستكون ديناميكيته؟ كيف سيتجاوب مع متطلبات وتحديات إعلان بشرى الإنجيل في زمن ركود إنساني قبل أن يكون اقتصاديا واجتماعيا؟ تلك هي الأسئلة التي ربما علينا البحث عن إجابات لها مع الرجل وليس هل سيتنحى البابا بسبب ما في العام 2023؟، بالنظر إلى أجندة البابا فرنسيس في قيادة الكنيسة الكاثوليكية، فالبابا فرنسيس، أكد أنه لا يملك أجندة خاصة بل هو يقوم بما أسفرت عنه مناقشات الكرادلة في الأعمال التحضيرية لمجمع انتخاب البابا في العام 2013 السابق لانتخاب «فرنسيس» حيث عبر الكرادلة يومها عن احتياجات الكنيسة التي يجب على البابا القادم العمل لأجل تحقيقها.
في 13 مارس المقبل، سيكمل خورخيه ماريو بيرجوليو «البابا فرنسيس» عامه العاشر كحبر أعظم للكنيسة الكاثوليكية، ومع ما أحدثه البابا اللاتيني اليسوعي في تغيير وربما تحول نوعي وهيكلي في إرسالية الكنيسة والمسيحيين حول العالم وبصفة خاصة بالدعوة للامركزية في قيادة الكنيسة والسنودسية التشاركية الإرسالية، واختيار الإصغاء لصوت المهمشين والأطفال والمعزولين والمرفوضين بداية من الأطفال، مرورًا بالنساء حتى المسيحيين في بؤر التوتر والنزاع، وهو ما سيتجلى بقوة عندما يقوم بزيارته التي تم تأجيلها إلى الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، برفقة جاستن ويلبي، رئيس أساقفة الكنيسسة الإنجليكانية، ليؤكد أنه على الرغم من أي مظاهر اعتلال فهو قادر على تبشير الفقراء والمهمشين وضحايا الرفض والعنف والحروب.
في زيارته للكونغو الديمقراطية وجنوب السودان، سيمنح البابا فرصة أكبر للاستماع لصوت أفريقيا، حيث المهمشين جراء الفقر والحروب والكوارث الطبيعية، وحيث يريد أن يكون حاضرًا بنفسه لتنشيط سينودسية الكنيسة التي يطالب بها ويعمل من أجل إتاحة الفرصة للمؤمنين، وبصفة خاصة أولئك المنبوذين ليتحدث الروح القدس بشفاههم، مُعبرًا عن الاحتياجات الحقيقية البسيطة غير المتسفسطة.
من المتوقع أن يعلن البابا فرنسيس، في أثناء زيارته للدولتين الأفريقيتين عن مفوضية حبرية لشئون أفريقيا القارة، التي بدت تعكس حضورا متناميا للإيمان الكاثوليكي على مستوى العالم، حيث تشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن نسبة الكاثوليك الأفارقة تمثل 20% من كاثوليك العالم.
أكد البابا فرنسيس، في ديسمبر الماضي، أن زيارته القادمة لأفريقيا هي انعكاس لإرساليته الممتدة عبر خبرة حياته اليسوعية في ضواحي بيونس آيريس، حيث حرصه المستمر على أن يرى الضواحي من الداخل، يستمع للناس في الأماكن العشوائية ويلمس حياتهم واحتياجاتهم الحقيقية عن قرب.
ويظهر بوضوح أن البابا فرنسيس، لا يبالي بمنتقديه ولا يستمع إلى الإشاعات بشأن استقالته أو على الأقل لا يعيرها اهتمامًا، ويبدو بالأكثر أن الرجل يمضي مدفوعًا بقوة الروح القدس وبرغبته في خدمة الكنيسة في استكمال إرساليته الرامية إلى إحداث انفتاح أكبر للكنيسة على واقع المهمشين والمنبوذين والمرفوضين والفقراء، من خلال إصلاح هيكلي لطريقة الخدمة أكثر من هيكلية الكنيسة ونمط إدارتها، لروحانية الكاثوليك الباطنية الإرسالية أكثر من تعليمهم، لوعي الكنيسة الجامعة بتحديات الزمن أكثر من الانغلاق حول شكليات باتت تشكل حجر عثرة أمام إيمان البسطاء.
علينا أن نسأل أنفسنا قبل أن نسأل عن مستقبل البابا ماذا نفعل في إرسالية حياتنا الخاصة واليومية؟ بدلًا من أن نسأل أنفسنا متى سنترك هذه الدنيا وكأننا عبء على الحياة أو بالأحرى الحياة عبء علينا.
بالمثل علينا التعاطي مع بابوية فرنسيس وربما أي بابا أو خادم أو قائد آخر، بالسؤال ليس عن زمن وكيفية رحيله بل عن جوهر رسالته وخدمته ودعوته ونمط إدارته قيادته والأثر والدور الذي يقوم به لخير الآخرين.