المشكلة تكمن فى عدم وجود شخصية توافقية قادرة على كسب دعم أكثر من نصف الليبيين وتقديم نفسها كرئيس جديد منتخب شرعيًا
سيكون من غير العدل أن نرجع فشل ليبيا إلى غياب الانتخابات ومن المسلم به أن الليبيين ما زالوا يبحثون عن هيكل حكومى للدولة يمثل مصالحهم ويركز عليها، ومن الواضح أن الوضع الحالى، الذى تسود فيه مجموعة كبيرة من المؤسسات، وبعضها موروث من موجة الصدمة التى أعقبت عام ٢٠١١، والبعض الآخر من التطورات الحديثة، لا يساعد بأى شكل من الأشكال فى تحديد قطب القوة الفعالة.
ولكن إذا كان تعيين الليبيين لممثلين محددين بوضوح يبدو قادرًا على إيجاد حل لمشكلاتهم، فإن المشكلة تكمن فى عدم وجود شخصية توافقية قادرة على كسب دعم أكثر من نصف الليبيين وتقديم نفسه على أنه رئيس جديد منتخب شرعيا.
القضايا الانتخابية
لقد ذهب الليبيون إلى صناديق الاقتراع فى الماضى، وأعربوا عن تفضيلهم لتوطيد الدولة الذى من شأنه أن يترك ذكريات عهد القذافى وراءهم.
فى يوليو ٢٠١٢، بعد أقل من عام على سقوط معمر القذافى، ذهب أكثر من ٦٠٪ من الناخبين الليبيين إلى صناديق الاقتراع لتعيين أعضاء فى المؤتمر الوطنى العام أو البرلمان فى ذلك الوقت. لكن بعد عامين انخفض الى ١٨٪ فقط يصوتون فى الانتخابات التشريعية.
صحيح أنه فى هذه الفترة، ساء الوضع السياسى، واندلعت حرب جديدة، تسمى «عملية الكرامة»، مما أدى الى تفاقم الوضع وأقنع السكان بأن الانتخابات لن تحل الخصومات والمشاكل المحيطة.
ومع ذلك، يجب الاتفاق على أن التشاؤم الذى لا يزال سائدًا إلا أن هذا لا يعتبر مؤشرا على ارتباط الليبيين بالاستفادة من الهياكل التمثيلية. إذا كانت أغلبيتهم قد صوتت فى عام ٢٠١٢، فهذه علامة على وجود إيمان بأفق سياسى من النوع الديمقراطى.
سيكون من الخطأ أيضًا الاعتقاد بأن الليبيين، بشكل عام، لا يشعرون بأنهم ممثلون اليوم. إذا لم يكن أى من السلطات الحاضرة هو التعبير عن تصويت مباشر حديث من جانب السكان، فهذا لا يعنى أن المواطنين يرفضونه بالضرورة.
إن حكومة الوحدة الوطنية (GUN) التى تتخذ من طرابلس مقرًا لها مؤيدوها، ليس فقط فى الغرب، ولكن أيضًا فى جزء من جنوب ليبيا. فى برقة، يحظى الجيش الوطنى الليبى، بقيادة المشير خليفة حفتر، بدعمه أيضًا، فى كل من شرق ليبيا وجنوبها. بالتبعية، فإن المجلس الأعلى للدولة (نوع من مجلس الشيوخ، ومقره طرابلس) ومجلس النواب (البرلمان ومقره طبرق) لهما أيضًا مؤيدون.
ولا تنطبق هذه الملاحظة على حكومة وزير الداخلية السابق فتحى باشاغا، التى تم تشكيلها مؤخرًا فحسب، بل تمتد أيضًا إلى مثال شخصيات معينة. ومن بينهم المشهور سيف الإسلام القذافى، نجل القائد السابق معمر القذافى، الذى يتمتع بحظوة كبيرة عند الشعب الليبي (حوالى ٢٥٪ من السكان الليبيين، خاصة فى شرق وجنوب ليبيا، وفقًا لتقديرات غير رسمية).
لأنه فى الأساس، فى غياب مؤسسات قوية وتمثيلية، تحول الوضع فى ليبيا الى شخصنة السلطة. فالشعبية التى يمكن أن يدعيها كل من رئيس الوزراء الليبى عبد الحميد دبيبة ومنافسه المشير حفتر تشهد أيضًا على ذلك.
طريق مسدود
نتذكر كيف ظلت التوقعات مرتفعة فى نهاية عام ٢٠٢١ من جانب العديد من المراقبين فى ضوء إمكانية حضور تنظيم الانتخابات الرئاسية، فى ٢٤ ديسمبر ٢٠٢١، والتى ستتبع بعد ذلك الانتخابات التشريعية.
كانت خيبة الأمل فى محلها: بين الخصومات السياسية، والخلافات حول طبيعة المرشحين الذين يمكن أن يشاركوا فى الانتخابات، ووفرة المرشحين بأجندات متنوعة، وغياب تام للإعداد اللوجستى، على خلفية غياب الشفافية كان من المفترض اعتماد دستور ليبى جديد قبل الانتخابات أو بعدها، ولكن لم يحدث شيء.
بعد مرور عام، لم يتم إحراز أى تقدم بشأن هذه القضية. هناك أشياء كثيرة تغلى فى المطبخ الليبى، لكن لا شيء يسمح لنا بالتنبوء. آخر الأخبار، كانت الأمم المتحدة تريد تنظيم انتخابات فى يونيو ٢٠٢٢.. منذ ذلك الحين، ينظم الفاعلون الليبيون أنفسهم هنا وهناك، فى اتجاه الدبلوماسية المكوكية، سواء على المستوى المحلى أو الإقليمى أو الدولى، ولكن دون معرفة ما يخبئه المستقبل.
لكن، فى محاولة لتعلم دروس الماضى، يمكن للمرء أن يعتقد أن الرغبة فى تنظيم انتخابات رئاسية قبل الانتخابات التشريعية كانت تضع العربة أمام الحصان. بطبيعتها، فإن الانتخابات الرئاسية مثيرة للجدل، وهى أكثر تعقيدًا من ذلك فى سياق لا يمكن أن يسود فيه الإجماع.. فى الواقع، لا يبدو أن أيًا من المرشحين الرئاسيين الذى لديه فرصة معقولة فى أن ينتهى به الأمر إلى جولة ثانية، قادر على كسب دعم غالبية الليبيين فى جميع المناطق أو المحافظات.
الدستور والانتخابات والسعى الدائم إلى حل
وفى الوقت نفسه، فإن كل البيانات المتعلقة بضرورة إرساء أسس دستورية قبل تنظيم الانتخابات قد تكون لها المصداقية، لكنها لا ترتكز على مقومات الوضع الليبى وعرقلاته. لا يبدو أن أى دستور قادر على مواجهة السعى المحموم للسلطة الذى ينتهجه الممثلون السياسيون الليبيون الرئيسيون.
عند سؤال الليبيين عن حقيقة مطالبهم اليوم: فإن الاحتياجات الإنسانية الأساسية، أى الحصول على ما يكفى من الطعام والشراب، والإحساس بالأمن فى تحركاتهم، تأتى فى أولوية المطالب. إن مطالب التغيير على المستوى السياسى ملحة بنفس القدر، كما يتضح من المظاهرات المختلفة التى نشهدها هنا وهناك: ولكنها ليست كافية بالضرورة لتحل محل البحث عن الكرامة الإنسانية.
الاحتياجات الإنسانية الأساسية والإحساس بالأمن فى تحركاتهم على رأس أولوية مطالب الليبيين.
التعريف بالكاتب:
بارح ميكائيل أستاذ مشارك ومدير برنامج العلوم السياسية والعلاقات الدولية فى جامعة سانت لويس فى مدريد. وهو أيضًا المدير المؤسس لشركة ستراتجيا للاستشارات Strattegia Consulting، وتركز على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. يكتب عن تشابكات الواقع الليبى فى اللحظة الراهنة، إذ يرى أن البلاد بتكوينهاتها المتعددة لا يمكن أن تتوافق على شخصية تحوز قبول غالبية الشعب الليبى وتتبوأ مقعد الرئاسة، بحسب الكاتب.