لم تكن مجرد مطربة استثنائية، أو حتى منحة قدرية منحها الله لمصر، أم كلثوم اكتمال الموهبة.. الصورة الأمثل التي يضرب بها المثل في النموذج الخيالي المحفز للواقع ليقترب منه كل محاول على طريق المجد والخلود، لكن لا أحد يصل، ولن يصل أحد، هذا جزم لمعجزة أتت ولن تتكرر، فأم كلثوم ليست فقط طبيبة الأمزجة منذ ميلادها حتى قيام الساعة، ولكنها صاحبة الفضل الأكبر في ترديد الألسنة لأشعار كبار الشعراء وزاد على ذلك بأنها ساهمت في إنعاش حركة الشعر العربي وجعلت الناس تُقبل على اقتناء دواوين الشعر.
ساقني الشغف في الأيام الماضية إلى النبش في حياة الست وأنا أقاوم ملل الليل بصوتها.. وأستأنس بشدوها..
سرحت مع أم كلثوم ليس في جمال الصوت لكن في التمكن من الحرف.. لا ليس تمكن بل من الإعجاز في لقيا الحرف وكأنه خلق ليجري على ثغرها.. ليتريض بينه وبين حنجرتها.. أتساءل كيف كان حال هذا الحرف لو لم تختاره كوكب الشرق.. لو لم تغنه.. لو لم تمنحه فرصة الحياة والبقاء.
كتب كثر وشعراء بعدد سخات ماء السماء منذ الخليقة، لكن المخلدون هم من دُونوا في صفحة أم كلثوم، حتى من أخذت منهم بعض أبيات ولم يصدر لهم دواوين أخذوا صك المحبة والتاريخ فقط لأنهم كتبوا لأم كلثوم... بعض محاولات وصلت إلى عدة كتب من بينها كتاب للدكتور حنفي المحلاوي كان قد صدر عام 2001 عن مكتبة الأسرة، تحت عنوان "شعراء أم كلثوم" نأخذ منه بعض المقتطفات قبل أن نعاود الحديث باستفاضة في مقالات قادمة.
أم كلثوم وأبو فراس الحمداني
أراك عصي الدمع
شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعم أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللن دمعا من خلائفه الكبر
تكاد تضئ النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا مت ظمآنا فلا تزل القطر
وقالت لقد أذرى بك الدهر بعدنا
فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر
من أول الشعراء العرب الذين تغنت أم كلثوم بكلماتهم، حين قدمت له في عام 1926 جزء من قصيدته المشهورة "أراك عصي الدمع" ومن شدة إعجابها بهذه القصيدة فقد تغنت بها أكثر من مرة وبأكثر من لحن.. فقد لحنها لها عام 1926 عبد الحامولي، ثم أعادت غنائها عام 1944 بتلحين جديد وضعه الشيخ زكريا أحمد، وفي ديسمبر 1964 أعادت كوكب الشرق أم كلثوم غناء هذه القصيدى للمرة الثالثة من ألحان الموسيقار رياض السنباطي.
أم كلثوم والشريف الراضي
أيها الرائح المجد تحمل... حاجة للمتيم المشتاق
إقرعني السلام أحباب قلبي.. فبلاغ السلام بعض التلاقي
وإذا ما مررت بالديار فاشهد.. أن قلبي يفيض بالأشواق
زإذا ما سئلت عني فقل.. نضر هوى ما أظنه اليوم باق
وأبك عني فطالما كنت من قبل.. أعير الدموع للعشاق
من شعراء العصر العباسي وغنت له أم كلثوم جزء من قصيدته "أيها الرائح المجد" ولحنها الشيخ زكريا أحمد في فيلم دنانير عام 1935.. وهناك من النقاد من يرى أن الأبيات التي غنتها أم كلثوم لم تكن للشريف الراضي بل كانت من تأليف شاعر آخر يدعى العاص عبد الوهاب وقد عدلت أم كلثوم كعادتها بعض الكلمات في الأبيات.
أم كلثوم والعباس ابن الأحنف
يا بعيد الدار موصولا بقلبي ولساني
ربما أبعدك الدهر وأدنتك الليالي
كلما زاد الشوق وفاضت بي شجوني
لٌذت بالسلوان والبعد وما يفعلان
وغنت جزء من قصيدته "يا بعيد الدار" من ألحان محمد القصبجي في فيلم "نشيد الأمل" الذي وضع قصته الأديب على أحمد باكثير.
أم كلثوم والشاب الظريف
مثل الغزال نظرة ولفتة
من ذا رآها مرة ولا أفتن
أحسن خلق الله خلقا وفما
إن لم تكن احق بالحسن فمن
في ثغرها وخدها وشعرها
الماء والخضرة والوجه الحسن
وغنت له قصيدة "مثل الغزال نظرة" من تلحين الشيخ أبو العلا محمد عام 1931 ويقول دكتور حنفي المحلاوي أنه حدث ما يشبه خلاف ثقافي على صاحب الأبيات التي غنتها أم كلثوم بين صفي الدين الحلي والشاب الظريف وأنه قطع أشواطا كبيرة من البحث والرجوع أساتذة جامعات معنيون بتاريخ الشعراء حتى عثر الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم على أن صاحب هذه القصيدة هو الشاب الظريف.
