من عراقة الحضارة الإسلامية، يستمد جامع الزيتونة المعمور بتونس تاريخه وشموخه، عظمته وعمارته، نقوشه وزخارفه التي تضفي عليه عمقا تاريخيا وأجواء روحانية تملأ أركانه العامرة بالمصلين والمبتهلين والباحثين في علوم الدين والباحثين عن نفحات إيمانية لا يعكر صفوها أحد.
"الزيتونة جامع وجامعة" فالجامع هو أحد أهم معاقل الإسلام الكبرى، والجامعة هي الأقدم على مستوى العالم (737 ميلادي)، تليها جامعة القرويين بالمغرب (859 ميلادي)، ثم جامعة الأزهر الشريف في مصر (972 ميلادي)، وجميعها منارات دينية حملت لواء العلم وناضلت ليبقى الإسلام مصدر إشعاع على مر العصور.
وفي غرفة عتيقة بالمسجد المعمور، التقى موفد وكالة أنباء الشرق الأوسط بتونس، الشيخ هشام المختار بن محمود الإمام الأول بجامع الزيتونة، الذي تعلقت مشاعره وجدانه بالمسجد منذ نعومة أظافره، وهو يرافق والده الشيخ محمد المختار أحد أقطاب الجامعة الزيتونية وأبرز علماء الشريعة ومفتي تونس الأسبق.
وقال المختار بن محمود وهو يسترجع ذكرياته مع والده" إن جامع الزيتونة بعلمائه وأقطابه ومفكريه كان دائما معقلا للعلم والدعوة والنضال السياسي، حيث كان يتجمع في محرابه كبار العلماء ويستقطبون معهم زعماء المشرق والمغرب العربي لحثهم على النضال ورفض الاستعمار والذود عن العروبة والإسلام".
وأضاف" أن علماء الزيتونة الأوائل لعبوا دورا مهما في الدفاع عن مقومات شخصية تونس العربية الإسلامية، والتصدى لكل محاولات طمس هويتها الثقافية وتغريبها، ولذلك فالمسجد حفظ لتونس عروبتها وإسلامها، وضمن لها استمرار الدعوة الإسلامية، ويعد حصنا حصينا للفكر الإسلامي الذي يواجه غلوا علمانيا من جهة وتطرفا دينيا من جهة آخرى، ليظل منارة علمية ودينية ثابتة على مرجعيتها الوسطية".
وأشار المختار بن محمود إلى أنه منذ مطلع القرن الثاني الهجري في العهد الحفصي، تحول الزيتونة من مسجد جامع فقط إلى جامعة للعلوم الشرعية وعلوم الشريعة ومقاصدها وأصول الفقه والدراسات القرآنية والسنة النبوية واللغة العربية والفلسفة والرياضيات، وتخرج منها مئات الآلاف من العلماء والفقهاء حول العالم العربي والإسلامي.
وأضاف الإمام الأول بجامع الزيتونة" لقد شهد التعليم في الزيتونة طفرة كبرى في عهد أحمد باشا باي مؤسس الدولة الحسينية، الذي جعل من الزيتونة موطنا تلتقي فيه المذاهب الفقهية، إذ كان المذهبان الحنفي والمالكي يدرسان في نفس الوقت لطلاب التعليم العالي من قبل كبار أساتذة التعليم، ليظل الزيتونة منذ تأسيسه أحد أهم مراكز نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب، وفي رحابه تأسست أول مدرسة فكرية إفريقية.
وأشار إلى أن الجامع يمتد على مساحة 5000 متر مربع ويحتوي على تسعة أبواب، وجاء تخطيطه على شكل مستطيل غير متساوي الأضلاع، وهو يشبه إلى حد كبير جامع عقبة بن نافع بالقيروان، ويحيط بفنائه رواق يرتكز على أعمدة ذات تيجان قديمة، بينما أروقة ثلاثة أخرى ترتكز على أعمدة من رخام أبيض يعود للقرن التاسع عشر، وتحتل الصومعة المربعة الزاوية الشمالية الغربية للفناء ويبلغ ارتفاعها 43 مترا.
ويتميز جامع الزيتونة المعمور أو الجامع الأعظم – كما تشير وكالة إحياء التراث التونسية - بمتانة البناء وثراء الزخرفة وتناسق عناصره المعمارية، واندماجه من حيث البناء والوظيفة الدينية والعلمية في المحيط الخارجي المكون من طرق رئيسة وأسواق، ويعود تأسيسه إلى العام 79 هجرية على يد حسان بن النعمان الغساني فاتح تونس، ثم قام عبيد الله بن الحبحاب والي الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك بإعادة إعماره، فزاد في أبنيته ورفع صروحه مستعينا بخبراء وبناة أرسلهم إليه والي مصر وقتها.
وتنوعت سقوف الجامع، فجاء سقف بيت الصلاة مغطى بعوارض خشبية بارزة من الداخل ومنبسطة مسطحة من الخارج، وترتكز هذه السقوف على أعمدة من الرخام جُلب أغلبها من المواقع الأثرية الرومانية والبيزنطية بتونس، وتعلو المحراب قبة مبنية بحجارة الحرش مرصعة بإتقان ذات قاعدة مربعة تحتوي على زخارف صغيرة بأشكال مقوسة، ويبرز من القاعدة شكل أسطواني مزخرف بعشرة أعمدة ذات تيجان مورقة، ويوجد بها عشر نوافذ مقوسة يعلوها شكل نصف كروي مضلع، لترسم جميعها في النهاية أبهى وأعظم صورة لأحد أهم المساجد في العالم الإسلامي.
ثقافة
جامع الزيتونة.. رمز الحضارة الإسلامية ومنارة العلم بتونس
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق