للعمل الروائي بريق خاص، وسط كافة أشكال العمل الأدبي وقوالبه المختلفة، ذلك لأنه يمثل صورة مصغرة من الحياة، فيها الإنسان بنماذجه المختلفة وفيها الحبكة والعقدة، وفيها التصاعد الدرامي للأحداث والحكمة والرسالة المضمرة في ثنايا القصة.
كل ذلك وأكثر تجده في القصة أو الرواية، كما تجده في الحياة ذاتها بنفس القدر وذات البعد.
والرواية عند نجيب محفوظ تحوي ذلك كله وأكثر، شأنها شأن الرواية عند غيره من الأدباء، إلا أن العمل الأدبي لدى محفوظ على وجه الخصوص له أبعاد أخرى يمكن أن نجزأها إلى عدة طبقات:
فهناك طبقة (الحدوتة) التي هي محل شغف القارئ المتعجل الذي يقضى وقته في قراءة العمل بحثًا عن التسلية.. وهو قاريء كسول إلى حد ما، يبحث عن التشويق والإثارة والمفاجأة، ويرغب دائمًا في خاتمة يفهمها عقله، ويرتاح إليها قلبه ولا يرغب في أبعد من ذلك.
وهناك طبقة أخرى تختبيء خلف الحدوتة وهي ما يمكن وصفها بأنها دراسة اجتماعية وتاريخية تظهر من خلال زمن الرواية وعلاقته بالأحداث وشخوص العمل، والبيئة التي صدًرت لنا تلك الشخصيات.
ثم تأتي الطبقة الأخيرة للعمل وهي ( النزعة الفلسفية ) في القصة.. وقد يعبر عنها نجيب محفوظ في صورة رموز ودلالات بشكل مستتر وتتجلى كثيرًا في إستخدامه لأسماء شخصيات رواياته وأوصافهم الجسمانية التي لا تنفصل كثيرًا عن مراده من مجمل العمل الأدبي، قصة كانت أم رواية.
لذلك عند قراءة أدب نجيب محفوظ لابد أن نعي تلك الطبقات وننتبه لها ونقرأ العمل قراءة جادة بحذر وإهتمام.
ويمكن لنا أن نوجز منهج القراءة تلك في عدة نقاط: -
اولها: أن نؤمن بنظرية (موت المؤلف) أي أننا نفصل تمامًا بينه وبين شخصيات رواياته، فلا هو منحاز لها، ولاهو يعاديها.
فالرواية عمل أدبي متعدد الأصوات، ليس سيرة ذاتية ولا مونولوج صادر من شخص واحد فهو ليس "سعيد مهران" في اللص والكلاب، ولا "السيد أحمد عبد الجواد" في الثلاثية ولا هو "اسماعيل الشيخ" في الكرنك ولا " أحمد عاكف "في خان الخليلي ولا غيرهم.
إنما هو كاتب يدير حوارًا ويثير تفاعلات بين نماذج بشرية مختلفة بُغية أن يضع امامك صورة متكاملة لفكرته.
ومن هنا جاءت خطورة إقتباس عباراته الشهيرة في رواياته دون ذكر إسم الشخصية التي جرى على لسانها هذا الكلام. لأنها تحيلنا إلى شخص الكاتب مباشرة، دون النظر إلى الدافع وراء العبارة وإلى طبيعة القائل.
ثانيها: ألا نقرأ العمل قراءة إنتقائية، أو قراءة ترصدية كأننا نبحث عما يدين الكاتب داخل النص، سواء فيما يتعلق بالموقف من الدين او الموقف من السياسة أو من الجنس.
ثالثًا: أن نقرأ العمل الأدبي لمحفوظ بمعزل عن تلك الأفلام السينمائية والأعمال التلفزيونية التي أُخذت عن رواياته. حيث للعمل الفني قوانينه وأدواته التي تخصه، والتي تضطر أحيانًا، وفقًا لرؤية مخرج العمل، أن تحيد عن رؤية الكاتب، أو تجهل بعضًا من جوانب العمل الادبي الأصل.
في ظل غياب تلك الرؤية عند القراء يمكننا بوضوح تفسير حالة العداوة التي تعرض لها الاستاذ، ظلمًا، في حياته، من قراء سطحيين لم تتجاوز قراءتهم لمحات البصر الخاطفة، أو اصحاب هوى متطرف والذين رأوه جميعًا كاتبًا ينتصر للإلحاد والمجون، بل والكفر أحيانًا.
ويمكننا كذلك فهم حالة التحريض المستمرة التي دارت رحاها في مصر زمنًا طويلًا حتى أستقرت طعنة الغدر في رقبته في خريف 1995 على يد شاب لا يعرف القراءة !
أما إذا صح لنا جملة تلك الأدوات والقواعد المنضبطة عند قراءتنا لأدب نجيب محفوظ، فسوف نكتشف أننا في مواجهة عمل أدبي فريد، وفي صحبة إنسان متفرد، سبر أغوار النفس البشرية، وامتلك أدوات الرواية جميعها، وملك ناصية اللغة حتى استحالت العبارات على يديه حِكمًا يتداولها الناس جيلًا من بعد جيل.