من العادي، والعابر تتسرب عوالم المجموعة القصصية الأولى للكاتب الفذ بهاء طاهر، من سلطة السؤال المبني على الشائعات المتناثرة بحق شاب يتقدم لخطبة زميلته في العمل، حيث ثمة وحدتان مركزيتان هنا (الأب السلطوي)، و(الشاب المحاصر)، وبينهما (ليلى) الشخصية المحركة لمجرى الحدث القصصي، والتي تصير غاية مبتغاة للشاب، وحصنا يدافع عنه الأب القاسي، تنطلق الحكاية من المرئي والمألوف؛ لتعاين عالما غير مرئي، ينهض على ثقافة السماع، التي تصير تكئة للأب في حصاره الخانق للفتى الذاهب إلى (الخطوبة) التي تنكسر على نصال اتهامات لم تثبت، ووقائع لم يتبين أحد صحتها، لتجعل القصة من السؤال مركزا لها، ومحورا تنبني عليه القصة، التي جاءت مقتصدة في لغتها، ويلعب الحوار القصصي دورا مفصليا داخلها، وتمثل المرويات المتواترة عن الشاب عبر الأب إطارا للسرد داخلها.
تنويعات قصصية
سيتسع عالم بهاء طاهر أكثر في أعماله اللاحقة، وسنري أثرا لتغريبة تلوح من بعيد، تثقل الروح، وتجعل العالم أكثر وطأة، سنرى هذا في مجموعته (بالأمس حلمت بك) وفي القصة المركزية التي تحمل الاسم ذاته، حيث ثمة سارد بطل، ورفاق مغتربون، أكثرهم من أولئك العابرين الذين يجيد بهاء الحكي عنهم، ورسم ملامحهم النفسية قبل ملامحهم الخارجية عبر إشارات دالة ومكتنزة، هنا أيضا كمال وفتحي صديقان غارقان في الغربة بمعناها الروحي، حيث انفصال الإنسان الفرد عن البنية الاجتماعية المحيطة به، يستهل بهاء طاهر قصته بمفتتح سردي دال يعزز فكرة الرتابة التي حوت الحياة حول السارد البطل، دون أن ينسى النصية على آلية التكرار للحوادث والأشياء من جهة، والمكان القاحل إنسانيا من جهة ثانية (أذهب إلى العمل في الصباح، وأعود في المساء للبيت. يحدث هذا خمسة أيام في الأسبوع، يحدث هذا في الشمال في مدينة اجنبية). تتواتر الأحداث وتتقاطع وتبدا لعبة الأرواح المتجولة، عبر توظيف تيمة الكتاب الحاوي لتلك الفكرة والذي يتناقله الأصدقاء في غربتهم، وتلوح أيضا ( آن ماري) ، ويعم الثلج، وتتوالد داخل القصة مفردات تشكل جزءا أصيلا في عالمها المبني على التوزع، ومحاولة الخروج من أسر واقع ضاغط ظنه السارد البطل فكاكا منشودا من واقعه الشرقي الصلد، لتنتهي القصة بهذا المختتم السردي المسكون بالشجن والفجيعة معا:
"كنت أبكي دون صوت ولا دموع ولكن مدددت يدي".
وفي (أنا الملك جئت) يستعير بهاء طاهر عوالم أسطورية تحمل إسقاطات لم تقع في فخ المباشرة السياسية، وإنما حملت تنويعات داخل متن (الأمثولة الفنية) التي عاينها من خلال قصته (محاكمة الكاهن كاي نن) على سبيل المثال.
ضفاف متسعة
تمتح الروايات في عالم بهاء طاهر من معين متعدد الضفاف، قد تنحو صوب استيلاد الرهافة من قلب القسوة، كما في روايته العذبة (قالت ضحى)، حين ترصد التحولات الاجتماعية والظلال السياسية لثورة يوليو، عبر نزوع رؤيوي أقل صخبا، تعزز من حركته الشجية لغة تنزع نزوعا شعريا تارة، وَتعتمد على تكنيك الصورة الروائية غالبا، وقد نرى سردية الأنا والآخر حاضرة بقوة مثلما في روايته (الحب في المنفى)، حيث تحيلك على جدل العلاقة بين الشرق والغرب في إطار صيغة مغايرة من التفاعل الندي الثقافي الذي يبرز عبر حكايات إنسانية الطابع، تلوح فيها دوما وحدتان اساسيتان (الأنا الشرقي الذي يمثله السارد البطل)، والآخر الغربي الذي تمثله الفتاة المنتمية إلى الشمال، وتنفتح الرواية على إشكالية الرواية وصداها الذي يتواتر بانتظام، في ظل حركة الإيقاعات السردية المتعاكسة والمتقاطعة في الآن نفسه (كنت قاهريا طردته مدينته للغربة في الشمال، وكانت هي مثلي أجنبية في ذلك البلد ، لكنها أوروبية وبجواز سفرها تعتبر أوروبا كلها مدينتها).
وقد تنحو الرواية لديه صوب عوالم شديدة الصفاء، تتجه صوب الداخل الإنساني الثري مسكونة بحس صوفي/ حكمي لا تخطئه عين، ولغة إشارية دالة كما في روايته (نقطة النور)، أو تسعى صوب معاينة جغرافيا سردية تتقاطع فيها مساحات الواقعي مع الأسطوري لتمنح النص مساحات ضافية من التخييل السردي كما في روايته (واحة الغروب).
وبعد.. يظل بهاء طاهر معنى متجددا في مسار السردية العربية المعاصرة، وعنوانا أصيلا على مزاوجة الجليل بالفريد في بنى إبداعية مصقولة، ومنتقاة.