قاتلا «القاضى» لم يتعديا العشرين عامًا
قاتلا الخازندار كانا يضحكان ويلقيان النكات فى أثناء التحقيق
الجماعة حاولت الإيهام بجنون القاتلين ليفلتا من العقاب
بعد صدور الحكم.. الجماعة حاولت تهريب الجناة من السجن
نواصل قضية اغتيال القاضي أحمد الخازندار، وهذه المرة نورد بعضامما كتبه أحمد مرتضى المراغى، مدير الأمن العام آنذاك في مذكراتهالمعنونة: -غرائب من عهد فاروق وبداية الثورة المصرية- مذكرات آخر وزيرداخلية قبل الثورة، الطبعة الأولى - مكتبة دار الشروق.
قتل رئيس محكمة الجنايات
وتحت هذا العنوان يسرد المراغي في (ص٧١)، الأسباب التي أدتبالإخوان إلى اتخاذ قرارهم باغتيال القاضي الخازندار فيقول: "انعقدتمحكمة جنايات مصر برئاسة المستشار الخازندار، وكان قاضيًا يتميزبالعلم الغزير وبنزاهة لا يرقى إليها الشك، لمحاكمة جماعة من الإخواناتهموا بحيازة متفجرات وأسلحة. وكانت القضية قد عرضت على دائرةأخرى تلقت تهديدات عديدة بالقتل إذا حكمت على المتهمين (لاحظالتهديدات للقضاء).
وأخذت القضية تؤجّل حتى انتهت إلى الدائرة التى يرأسها الخازندار. وطلب محامو المتهمين التأجيل. ولكن الخازندار رفض التأجيل وأصر علىالنظر فى القضية (رغم تهديده بالقتل سواء برسائل أو مكالمات هاتفية) لصلابته المعهودة عنه. وحكم في القضية بحبس المتهمين مدة طويلةبالأشغال الشاقة. وهنا صدر عليه هو حكم الإعدام من محكمة الإخوانونفذ كما يأتى:
خرج المستشار الخازندار من منزله صباح يوم مشمس من أيام الشتاءفى حلوان بعد أن ودع زوجته وقبل طفليه وأخذ يمشى على مهل من منزلهفى الجهة الشرقية من المدينة متجهًا إلى محطة السكك الحديدية ليستقلالقطار. ولم يبتعد عن منزله أكثر من خمسين مترًا حتى انقض عليهشابان أحدهما فى التاسعة عشر والثانى فى الثامنة عشر (لاحظ حداثةسن الشابين) وأطلقا عليه ست رصاصات سقط على إثرها قتيلا.
وفر الشابان صوب الجبل المحيط بحلوان. ورآهما أحد المارة فأسرعبإبلاغ البوليس الذى انطلق وراءهما. وسمعت زوجة المستشار صوتالطلقات، وأحس قلبها بأن شيئًا أصاب زوجها. وكان نذير إحساسها ماوجه إلى زوجها من تهديدات.
ويواصل المراغي في (ص ٧٢)، فخرجت (في إشارة للزوجة) حافيةالقدمين، ونظرت إلى بعيد لترى جثمانًا على الأرض وأشخاصًا ينحنونعليه. فجرت إليه لتجده غارقًا فى دمائه. وأخذت تحضنه وتناديه وتبكىوتندبه وتصرخ صراخ اليأس. ولحق رجال الشرطة بالشابين وقبضواعليهما وبدأ التحقيق معهما فى قسم حلوان.
وأضاف: وأسرعت بحكم وظيفتي إلى القسم لحضور استجوابهما. رأيتهما هادئين باسمين. كان أحدهما ضخم الجثة طويلا وكان الآخرقصيرًا نحيفًا. وبدأ وكيل النيابة التحقيق، وسأل أولهما عن اسمه. فأجابولماذا تريد معرفة اسمى؟ وسأل الثانى فأجاب اسأل زميلي يقل لكاسمى. وضحك. فنهرهما وكيل النيابة وأعاد السؤال. فذكر كل منهمااسمه.
وسألهما هل أطلقا الرصاص على المستشار الخازندار؟ فردا بكل برود: ومن هو الخازندار. ثم امتنعا عن الرد على أي سؤال. فتوقف وكيل النيابةعن التحقيق. ولكن أحد رجال البوليس حاول التكلم معهما فضحكا ولميردا عليه. فسكت. وبعد ذلك مال الصغير النحيف على أذن الضخم وأسرإليه شيئًا استغرق بعده فى ضحك مكتوم حتى دمعت عيناه.
فقلت له (أي المراغي باشا): هل أستطيع أن أعرف ما الذي أضحكك؟
فرد مبتسمًا: أصل صاحبي هذا خفيف الدم، وقال نكتة حلوة. وهو دائمًايسلينى بإلقاء النكت (أنظر استهتار شباب الإخوان بالأرواح، جراءأسلوب التربية).
تملكنى غضب وحنق لا حد لهما. قاتلان يقتلان مستشارًا على درجةممتازة من العلم والخلق، ويرملان زوجة شابة، وييتمان طفلين، ولا يأبهانبشيء، ولا يحسان بفداحة الجرم الذى ارتكباه، ثم يتماديان فىالاستهتار بالمحقق ورجال الأمن. ويتبادلان النكات بدلا من الرد علىأسئلة وكيل النيابة. لا بد أن يكون فى الأمر شيء.
إنهما لا يتصرفان كأشخاص عاديين لهم عقل وتفكير. هل هما تناولاشيئًا من المخدر؟! ونترك إجابة المراغي لأنها قد تغضب الإخوان ويتركانكل شىء ليمسكا بهذا الرأي ليقارعانني به، ونذهب الآن لتأكيد كل ماسبق، إلى أحد عتاة النظام الخاص وقادته البارزين، لنرى كيف يرىالحادث.
الخازندار في خبر كان
في كتابه "النقاط فوق الحروف الإخوان المسلمون والنظام الخاص" الطبعة الأولى- الزهراء للإعلام العربي– يشرح أحمد عادل كمال في (ص١٧٣)، تحت عنوان: "الخازندار فى خبر كان"، الأسباب وراء اغتيالالخازندار من وجهة نظر إخوانية يقول: مر بنا حين تناولنا قنابلالكريسماس كيف امتلأ بعض شبابنا بأن القاضي أحمد بك الخازنداررئيس محكمة استئناف القاهرة كان يرى شرعية الوجود الإنجليزي فىمصر بموجب معاهدة ١٩٣٦.
وتطوع بعضنا لتخليص الحركات التحريرية منه فإن أمامنا منطلقا كبيراوجهادا مريرا طويلا، فإذا سمحنا لهذا السيف أن يظل قائما يقتطع منأطرافنا وأعضائنا فأى خسارة سوف تصيبنا وأى تضحيات من ذواتناسوف نقدمها على مذبح الحرية بدون مبرر. تلك كانت النظرة عند شبابيتعجل تحرير وطنه. وعلمت أنه تم اختيار من يقوم بهذه المهمة فصرت أولشيء أفعله كل صباح أن أقلب الصحف بحثا عن الخبر.
ومرت الأيام دون أن أقرأ الخبر الذى أنتظره. وعدت أفاتح فى الموضوعوأسأل عن سبب البطء، وجاء الجواب إننا نبحث عن عنوان الرجل ونجدصعوبة فى ذلك فإن اسمه ليس فى دليل التليفونات، وربما كان هذاطبيعيا فقد كان منقولا من الإسكندرية ولعله لم يحصل على تليفون بعد أوحصل عليه ولم يدرج فى الدليل. وأخيرا عرف أنه كان يقيم فى ضاحيةحلوان.
اغتيال
ويستمر عادل كمال في روايته فيقول في (ص١٧٤)، عادت الأيام تمربطيئة ونحن نتصبح بالبحث فى صحف الصباح، حتى كان يو ٢٢/٣/١٩٤٨.. كنت فى عملى بالبنك الأهلى حيث شاهدت أحد الموظفينالأجانب يندفع وسط المكاتب ويصيح: "جمدوا حساب أحمد بكالخازندار"، فسأله أحدهم لماذا؟ قال جاءنا خبر الآن بالتليفون أنه مات.. ضربوه بالرصاص.
لم يكن الخبر عند موظفي البنك أكثر من أنه حادثة وأن حسابه سيجمدحتى يحصر الورثة ويتحدد نصيب كل وارث، ولكنه عندي كان أكثر منذلك.
وما أن انتهى عمل اليوم بالنسبة لى حتى انطلقت أطمئن على ما حدث،ولكن لم تكن الأخبار مطمئنة لقد اغتاله اثنان من أخواننا فى الصباحولكن قبض عليهما.
كيف اغتيل الخازندار؟
تحت هذا العنوان يروي عادل كمال الحادثة بالقول: وقع الاختيار علىحسن عبدالحافظ ومحمود سعيد زينهم لاصطياد الرجل. وبعد مراقبةالرجل أيام عُلم أنه يذهب إلى المحكمة من باب الخلق بالقاهرة ويعود إلىحلوان بالمواصلات العادية سيرا على الأقدام إلى محطة سكة حديدحلوان ثم قطار حلوان إلى باب اللوق ثم المواصلات المعتادة كذلك أبانتالدراسة أن قسم بوليس حلوان لا تتبعه سيارات!
وعلى ذلك وضعت الخطة، أن ينتظر خروج الرجل من بيته.. فيغتاله حسنبالمسدس بينما يقف له محمود حارسا وحاميا لانسحابه بالمسدسوبقنابل يدوية صوتية، ثم ينسحبان ويمنعان تتبعهما من الجماهيربإطلاق الرصاص فى الهواء وإلقاء القنابل (أرجو أن يرى القارئ كيفكان الإخوان يخططون لجرائمهم بمنتهى الدقة ثم يخرج مسئولوهم عليناليقولوا بأن الجماعة لم ترتكب حوادث عنف وأنها جماعة سلمية). ويكونانسحابهما فى غير تتبع من أحد إلى بيت عبدالرحمن (في إشارة إلىعبد الرحمن السندي قائد النظام الخاص). ولقد باتا ليلتهما أيضا عندهفى هذا البيت، بيت عبدالرحمن السندي.
ويواصل في (ص ١٧٥)، وفى الصباح الباكر وقبل الموعد المعتاد لخروجالخازندار من بيته كان الصائدان يترصدان ذلك الخروج، ثم خرج فىخطوات وئيدة لا يدرى ما هو مبيت له. وكان محمود بعيدا بعض الشيءيرقب الطريق والمارة ويرقب أيضا أخاه فى المهمة، بينما تقدم حسنوأطلق بضع طلقات لعلها كانت ثلاثا لم تصب الهدف.
ولم يضع محمود الفرصة فترك مكانه وتقدم نحو الخازندار وقيل إنهأمسك به من ذراعه وأوقعه إلى الأرض، كان محمود مصارعا ورياضياوكان مكتمل الجسم مثل الجمل الأورق، وصوب إليه مسدسه فأفرغ فيهما شاء، ثم تركه وانسحب بزميله وقد خرجت الأرملة تصيح من الشرفةوتقول: "ألم أقل لك؟ يا أحمد بك ألم أقل لك؟.. أنا مش قلت لك؟".
كان العجلاتى القريب من البيت يفتح محله حين سمع إطلاق الرصاصوصراخ الزوجة ونظر فوجد الخازندار ممددا على الأرض فى دمائهوانطلق العجلاتى بإحدى دراجاته إلى قسم البوليس فأبلغ الأمر. وهناكانت مفاجأة القسم الذى كان معلوما خلوه من السيارات تصادف أنجاءت من القاهرة سيارة فى تلك اللحظة لنقل بعض المحجوزين به. وانطلق الكونستابل الذى كان يصاحب السيارة بها فى أثر الفارين.
وتغير الموقف فاتجه محمود وحسن صوب الجبل بدلا من اتجاههما إلىبيت بحلوان والذى يعرف جبل المقطم يعلم أنه ليس مجالا مناسبا للفرارفى تلك المنطقة، واجتازا فى انسحابهما هذا بعض أسوار الحدائقوالبيوت، وسقط حسن فجزعت قدمه، واضطر محمود أن يحمله أو يسندهبعض الوقت.
وتوالت قوات البوليس من القسم نحو الجبل ثم لم يلبث الجبل أن ضربعليه حصار من العباسية إلى حلوان على مسافة تزيد على ثلاثين كيلومترا، وتقدمت تلك القوات إلى داخل الجبل الأجرد فقبضت على محمودوحسن. وأنكرا كل صلة لهما بالحادث. وجرى التحقيق ليلتها فى قسمحلوان بمعرفة النائب العام محمود منصور، ثم نقلا إلى القاهرة. وفىاليوم التالى وجدتنى أشهد جنازة الخازندار إلى مسجد شركس وقد سارفيها جمع من رجال القضاء.
الحكم
ويواصل عادل كمال في (ص١٧٨)، طال التحقيق وكذلك المحاكمة،وتظاهر حسن بالمرض العصبى وأحيل إلى مستشفى الأمراض العقليةبالعباسية وقدمت البحوث والتقارير والمناقشات حول مرضه ومدىمسئوليته الجنائية فى ظل الحالة التى تنتابه.
وفى قضية مصرع الخازندار عمد الدفاع إلى تأجيل النظر بكل الحجج،ومن المعلوم عن القضايا الساخنة أنها تبرد بمضي الوقت (أنظروا كيفيخطط الإخوان للهروب من العقاب أيضا)، وكان هذا فى الواقع ما يهدفإليه الدفاع. وكان الأستاذ فتحى رضوان من هيئة الدفاع وقد بنىمرافعته أساسا على براءة المتهمين مما نسب إليهما من قتل القاضيالخازندار ثم لجأ إلى الدفاع الاحتياطي فقال: "ومع ذلك نفرض جدلاأنهما قتلاه، فما الدافع لهما على ذلك؟".
وذكر ما شاء تحت هذا العنوان، ثم ختم مرافعته بتحذير.."إنها نار فحذارأن تطفئوها بالبنزين!" وأخيرًا صدر الحكم فى ٢٢ نوفمبر ١٩٤٨ علىمحمود زينهم وحسن عبد الحافظ بالأشغال الشاقة المؤبدة.
مشروع تهريب المتهمين
ويمضي عادل كمال ليشرح خطة الإخوان لتهريب الجناة: لقد شدتعملية الخازندار أعصابنا شدا عنيفا، وكان اهتمامنا بمحمود زينهموحسن عبدالحافظ بالغا، لست أقصد مجال الدفاع فى القضية وتوكيلأفضل المحامين للدفاع عنهما، ولكننا كنا نعد العدة لعملية أكبر، هىتهريبهما من السجن باقتحامه ليلا وإخراجهما منه.
وتمت دراسة العملية.. مباني السجن من الخارج ومسالكه من الداخل،ونظام الحراسة فيه.. وأعدت معدات الاقتحام.. سلالم من الخشب يمكنطيها وفردها، وسلالم من الحبال ذات عقد وذات عقل من الخشب.. واختير مكان الاقتحام من سور السجن الخلفى الجنوبى.. ودرس كل ماسوف تقابله مجموعة الاقتحام، وتم اختيار هذه المجموعة ودربت علىالعمل الموكول إليها وانتخب السلاح المناب وكان فى جملته من الرشاشاتالصغيرة والمسدسات.
ولم يكن مع الطرف الآخر من حراس السجن سوى بنادق قديمة الطرازمما يحشى طلقة طلقة، وتم استمالة بعض حرس السجن بالمال واعتادالإخوان المسجونون أن يقدموا الأطعمة للحراس وكان مقررا أن تكونأطعمة ليلة التنفيذ أطعمة مخدرة وشهية. وصنعت مفاتيح لأبواب السجنوزنازينه وتم تجربتها على أبوابها، وأعدت السيارة اللازمة للاختطاف كماأعد المخبأ الذى يلجأ إليه الهاربان.. ودرس نظام الإنارة فى المنطقة لقطعالتيار الكهربائي ساعتها. وكان كل شيء يسير فى مساره المرسوم.
ولكن جاء حادث السيارة الجيب ومحنة ١٩٤٨ وقبض على المخططينللعملية وعلى بعض المرشحين للاشتراك فيها قبل التنفيذ، وحتى نفسالمفتاح الذى كان مقررا أن يفتح أبواب السجن سقط في مكان بالسيارةالجيب.
ولم يلتفت أحد من المحققين ولا من البوليس السياسيى وقتها إلى أنهمفتاح السجن، سجن مصر العمومى رغم تردد أعضاء النيابة علىالسجن عدة مرات وخاصة محمد بك عبدالسلام رئيس نيابة الاستئنافالذى كان يتولى التحقيق فى قضية السيارة الجيب والذى لا شك رأىالمفتاح الكبير المميز ضمن أحراز القضية كما رأى أمثاله بأيدى جاويشيةالسجن، ولكنه لم يربط بين الاثنين. فلبث محمود زينهم وحسن عبدالحافظبالسجن بضع سنين، خمسا أو ستا، إلى أن قامت الثورة فأصدرت عفواخاصا عنهما.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة..