تعود أزمة الطاقة في أوروبا إلى أكثر من عقد من الزمان، وما كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إلا مجرد عامل مهم في تغييرات جذرية أحدثتها القارة العجوز في إمدادات الطاقة.
صارت أوروبا الآن ضحية لقراراتها التي قلصت الاعتمداد على مصادر الطاقة غير المتجددة ومنها الوقود الأحفوري، لتتبع بذلك سياسات جديدة نحو الاقتصاد الأخضر الصديق للبيئة، وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة كالشمس والرياح، لكنها في تلك الأثناء واجهت ما لم يحمد عقباه، فنتيجة لتحجيم استخدامات النفط والغاز، لدفع وتسريع عجلة التحول إلى الطاقة المتجددة وهو هدف بيئي في الأساس، انخفض معدل الإنتاج المحلي بالقارة إلى نحو 62% بالنسبة للغاز الطبيعي، و43% بالنسبة للفحم، و35% بالنسبة للنفط، في الفترة من 2010 إلى 2020 وفقا لتقارير المفوضية الأوروبية.
في المقابل وفي الفترة ذاتها، زاد إنتاج أوروبا في المصادر المتجددة إلى 39% ، لتبلغ حصة القارة من إنتاج الطاقة إلى نحو 41% عام 2020، بيد أنها زيادة غير مطمئنة على الإطلاق، لتأمين احتياجات الأوروبيين خاصة مع حلول فصل الشتاء، وبذلك تكون أوروبا قد وقعت في أزمة خانقة نتيجة الإسراع نحو الاقتصاد الأخضر.
ولكن كيف حدث ذلك؟.. تحتاج أوروبا إلى مساحات شاسعة لبناء مجمعات الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتأمين احتياجاتها، وهو ما لا تقدر عليه القارة العجوز، ولم تسمح التغييرات المناخية أيضا بذلك إذ لا تسطع الشمس لفترات طويلة خلال العام، وربما تهدأ حركة الرياح، فضلا عن عجز في أنظمة تخزين تلك الطاقة المتجددة، وفقا لتقرير بثته شبكة سكاي نيوز.
وبسبب خفض إنتاج الطاقة غير المتجددة وصعوبات إنتاج "المتجددة" زادت نسبة استيراد أوروبا للغاز الطبيعي بنحو 80% و58% للنفط لتغطية احتياجات الأوروبيين، وبسبب الضغوط التي تواجهها القارة من بعض المنظمات البيئية قلصت بعض الدول الأوروبية من عقود الغاز والنفط طويلة الأجل، وهي عقود تشتريها الدول لتأمين الاحتياجات لمدد طويلة، ولجأت من ساعتها إلى ما يعرف بالسوق الفورية، وهي أكثر تكلفة حال ارتفاع الأسعار.
ووفقا لوكالة بلومبرج الأمريكية، تواجه أوروبا، أزمات اقتصادية خانقة، فبين أزمة طاقة وأخرى مالية، تقع القارة العجوز بين فكي الرحى، وتختلف تقديرات حجم صدمة أسعار النفط والغاز الطبيعي، ولكن هناك تقييما معقولا يشير إلى أن تكلفة الطاقة تتراوح بين 6٪ و8٪ من الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا.
وتقول الوكالة الأمريكية إن من بين الخيارات المتاحة للتعامل مع هذه الصدمة السماح لأسعار الطاقة بالارتفاع والسماح للقطاع الخاص بالتكيف، وهذا يعني ارتفاع تكاليف التصنيع وارتفاع فواتير التدفئة المنزلية، وانخفاض الدخل المتاح للإنفاق على السلع والخدمات الأخرى. وبشكل عام، سيكون الأمر شبيهًا بصدمة أسعار الطاقة عام 1979 والركود الذي أعقبها.
وعادة ما يكون حجم الركود أكبر من حجم صدمة الأسعار الأولية، فعندما تبدأ بعض القطاعات الاقتصادية في الانكماش تكون النتيجة انكماش قطاعات أخرى مرتبطة بها، وعلى سبيل المثال فمن المتوقع انخفاض أسعار الأصول، مما يضر بدوره بالاستثمار والاستهلاك. وتشير بيانات حديثة إلى أن الصادرات الألمانية تشهد تراجعًا شديدًا، على الرغم من أن بعض هذا الانخفاض يرجع إلى مشاكل غير متعلقة بالطاقة.
هنا يصبح أمام الحكومات الأوروبية خيار واهٍ للهروب من أزمة الطاقة، حيث يقوم في الواقع على تحويل أزمة الطاقة إلى أزمة مالية، فإذا قررت الحكومات تحمل الزيادة في فاتورة الطاقة، فسيبدو الأمر كما لو أن صدمة أسعار الطاقة لم تحدث أبدًا.
وبالفعل، أعلنت الحكومة البريطانية تخصيص 200 مليار جنيه إسترليني لتخفيف صدمة أسعار الطاقة على الاقتصاد، وكشفت الحكومة الألمانية أيضًا عن خطة لإنفاق حوالي 200 مليار يورو لحماية الاقتصاد من صدمات أسعار الطاقة.
وإذا تحملت الحكومات الأوروبية تكلفة الطاقة الإضافية بالكامل، فستتكلف ما بين 6% إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي، وسيتعين عليها تحمل هذه التكلفة كل عام تظل فيه أسعار الطاقة مرتفعة. وسيتطلب ذلك مزيدًا من الاقتراض الحكومي، أو فرض ضرائب أعلى، أو طباعة نقودًا أكثر، أو مزيجًا من هذه الخيارات.
واوضحت "بلومبرج" أن الجانب الإيجابي لهذا الخيار هو أن تحويل أزمة الطاقة إلى أزمة مالية يؤدي إلى تخفيف أثر ارتفاع تكاليف الطاقة على الاقتصاد بأكمله. أما الجانب السلبي فهو من شقين: فأولاً، إبقاء أسعار الطاقة منخفضة يغري المستهليكن والشركات بالتوسع في الإنفاق وبالتالي ينذر بزيادة التضخم، وثانيًا وهو الأهم أن الأزمة المالية البديلة عن أزمة الطاقة لا تقل صعوبة وخطورة عن أزمة الطاقة.
وارتفع معدل التضخم في منطقة اليورو إلى قمة قياسية جديدة في شهر سبتمبر الماضي، متجاوزا التوقعات، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز الطبيعي.
وقالت وكالة الإحصاء الأوروبية "يوروستات"، الجمعة الماضية، إن أسعار المستهلكين في منطقة اليورو التي تضم 19 دولة، سجلت رقما قياسيا بنسبة 10 بالمئة في سبتمبر، ارتفاعا من 9.1 بالمئة في أغسطس. وتعتبر قراءة التضخم الجديدة هي الأعلى منذ بدء حفظ الأرقام القياسية لليورو في عام 1997.
وكانت أسعار الطاقة هي السبب الرئيسي في ارتفاع التضخم، حيث ارتفعت بنسبة 40.8 بالمائة عن العام الماضي. وجاء ارتفاع التضخم مدفوعا بالانقطاعات المستمرة في إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا والاختناقات في الحصول على إمدادات المواد الخام وقطع غيار السيارات مع انتعاش الاقتصاد العالمي من جائحة كوفيد-19.
وفي الوقت نفسه، فإن الأسعار المرتفعة لفواتير الخدمات والأغذية والوقود تجعل لدى المستهلكين أموالا أقل لإنفاقها على أشياء أخرى. وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الاقتصاديين يتوقعون حدوث ركود، أو انكماش خطير وطويل الأمد في النشاط الاقتصادي، في نهاية هذا العام والأشهر الأولى من العام المقبل.