منذ بدء صوم العذراء مريم ، ويعيش أقباط مصر الآن حالة تتسم بالطابع الروحاني، يكثرها التراتيل والتسابيح الروحية المنبثقة من ربوع أديرة وكنائس مصر، وعاشت أم النور حياتها في هدوء، وقبلت جميع التجارب التي سمح بها الله بالطاعة والرضى، ونسلط الضوء في هذه السطورعلي ملامح تجاربها وحياتها المنيرة.
ويستمر صيام العذراء مريم عند الأقباط الأرثوذكس إلي يوم 22 من الشهر الجاري، بينما ينتهي عند الأقباط الكاثوليك يوم الإثنين القادم، ويأتي الصيام بمناسبة صعود جسد السيدة العذراء مريم إلى السماء، حسب المعتقد المسيحي؛ فيُعد الصيام تكريماً وتطويباً لها، “و فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني” لو48:1، ويُعتبر الصيام من الدرجة الثانية بين أصوام الكنيسة القبطية الارثوذكسية، ويسمح به أكل الأسماك بالإضافة إلي الأكلات النباتية ويمنع أكل اللحوم واللبان وكل المنتجات الحيوانية كباقي الأصوام.
هدوء وطاعة
ابتسمت حياة أم النور منذ طفولتها بالهيكل إلي أن تنيحت بالهدوء والطاعة وقلة الانفعالات وندرة الكلام، رغم مجريات حياتها المليئة بالأحداث التي تستدعي الكثير من الانفعالات والتعابير.
مما دفع البابا شنودة الثالث بتخصيص فصل كامل عن حياة التسليم وطاعة أم النور لإرادة الله في كتاب السيدة العذراء مريم، ونسرد بعض من هذه التأملات.
ولدت العذراء مريم في الناصرة وفي سن الثالثة من عمرها، أرسلتها أمها إلي الهيكل، عملاً بوعدها إلي الله فقد وعدت بأن الذي تلده يكون خادماً لله في بيته وكل أيام حياته، وكان أول موقف قابلته بالرضى والطاعة، حينما أكملت عامها الثاني عشر، وقيل لها إنه يجب أن تخرج من الهيكل؛ ولأنه كان غير مسموح أن تخدم فتاة تخطت سن البلوغ في هيكل سليمان وفقاً للشريعة اليهودية، وقابلت ذلك بالرضا ولم يذكر أنها اعترضت أو احتجت على ذلك.
وبعدها طلب منها أن تتزوج من أحد الرجال الصالحين حسب التقاليد في أيامها، وقبلت ذلك بالرضا ولم تحتج مثلما قبلت خروجها من الهيكل، وبعدها خطبت من يوسف النجار وأثناء خطبتها، أراد الله أن تكون أمًا، وليس أي أم، بل ام تحبل وتلد وهي بتول، ليصبح أعجب حدث مر علي البشرية.
واحتملت عدم المقدرة علي التفسير وإيضاح الأمر لخطيبها أو لمن حولها، لأنه كان من الطبيعية حينما تحكي لن يصدقها أحد وستتهم بالزنا وتتهم بخيانة خطيبها ايضاً، وقابلت هذا الامر أيضاً بالرضي والهدوء والتسليم لإرادة الله، وبعد أن عرف يوسف خطيبها كان من الطبيعي أن يقرر أن يتركها.
ولم يذكر الإنجيل أي محاولة منها لتبرير نفسها أو إيضاح حقيقة الأمر ليوسف، إلا أن أرسل الله ليوسف ملاكا يخبره بالأمر، وتقبل هو أيضاً هذه المعجزة الإلهية الفريدة، وظل معها وبجانبها في أشد الأوقات مثلما ذكر في الإنجيل المقدس.
واستمرت تجارب الله تتوالي، فبعد أن ولدت السيد المسيح طُلب ملاك الرب من يوسف النجار أن يأخد الصبي وأمه ويهرب إلي مصر؛ لأن هيرودث الملك كان يريد أن يقتل الطفل، وقابلت العذراء مريم هذه التجربة أيضاً بالطاعة، وتركت بيت لحم وقطعت آلاف الأميال سفراً إلى مصر متنقلة من مكان إلي مكان بين بلدان مصر، إلى أن وصلت العائلة المقدسة لآخر محطة في مصر بمنطقة درنكة بأسيوط حالياً حسب ما اوضحت الدراسات حول ذلك.
ولم تكن رحلتهم في مصر نزهة، بل واجهوا صعاب كثيرة لم يستيطعوا تحملها لولا معونة الله، صعوبات من الغربة والفقر وقلة الموارد وغياب منزل يأويهم، ولا سيما طردهم من كل قرية أو مدينة يذهبون إليها؛ ويرجع ذلك لسقوط الأصنام أينما وجد السيد المسيح، وذكر في سفر أشعياء النبي: ≫ فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها≪ اش 19:1.
وظلت العائلة المقدسة في مصر إلي أن ظهر ملاك مرسل من الله ليوسف النجار يخبره أنه قد مات هيرودث الملك وأنه يجب عليه العودة، وخاضت العائلة المقدسة رحلة العودة إلى الناصرة " مدينة تبعد عن القدس بـ 105 كم"، وطلب منها بعد أن اكتملت بشارة السيد المسيح، أن تكمل حياتها مع يوحنا بن زبدي "يوحنا الإنجيلي" وقابلت كل ذلك أيضاً كما اعتادت بالرضى والثقة في إرادة الله.
وأبدع البابا شنودة الثالث في وصف العذراء مريم حينما قال: ≫كانت إنسانة هادئة، تحيا حياة التسليم، بلا جدال. لذلك فإن القدير صنع بها العجائب... إذا نظر إلي اتضاع أمته≪
بركة وشفاعة أم النور
وأجمع شعوب العالم علي تمجيدها وتكريمها، ويتبرك منها الجميع من كافة الأديان والطوائف، ومصر خير مثال علي ذلك، فنجد صورها وأيقوناتها علي جدران الكنائس والأديرة وداخل البيوت والمحلات، ويُعد فترة الصوم والنهضة ذات طابع خاص ومميز فينتظره آلاف الأسر من مسيحيي ومسلمي مصر، حتي يتثني لهم أن يزوروا الأماكن التي وطأت قدميها السيدة العذراء وعائلتها المقدسة في مصر.
وتمتلئ هذه الأيام الأديرة والكنائس المقدسة بالزوار والمصلين؛ لنوال البركة وإحياء ذكرى العذراء مريم، وعلي رأس هذه الأماكن هو دير درنكة بمحافظة أسيوط، ويعد الدير آخر مكان وصلت له العائلة المقدسة في مصر قبل أن يرحلوا.
وبمجرد أن تخطو قدمك هناك يمكنك أن تسمع التراتيل الروحية والتهليل بأم النور، ويعلو الهتاف بقولهم: "السلام لك يا مريم، يا عذرا يا أم النور اظهري لينا ظهور"، ولاسيما كثرة الشموع المضيئة أمام كل أيقونة من أيقوناتها، ويترك الكثير خلفهم مشاغل الحياة ومتاعبها، ويأتوا إلى هذا المكان المبارك، ويرفعوا قلوبهم طالبين شفاعة أم النور، راجين تدخلها في حياتهم لحل مشكلاتهم المستعصية، كما حلت مشاكل الكثير من قبل.