قد يخفى عن الكثيرين أن ثورة 23 يوليو 1952، التي كتبت النهاية للحكم الملكي وأنهت حكم أسرة وخلفاء محمد علي باشا في مصر، كان من المقرر أن تندلع في مثل هذا اليوم 22 يوليو إلا أنه بقرار من قادة الثورة تم تأجيل ساعة الصفر لتكون ليلة 23 يوليو، وذلك بسبب عدم اكتمال الخطة التي وضعتها حركة "الضباط الأحرار"، وذلك ما كشف عنه قادتها خلال الأيام التالية للثورة.
ومن هنا نرصد مجموعة من أبرز كواليس ثورة 23 يوليو 1952، التي كانت فارقة في التاريخ المصري، ولعل من أبرزها أسرار تأجيل الثورة لمدة 24 ساعة، وسر تسجيل بيان الثورة بعد 6 أشهر، وماذا كان بفعل جمال عبد الناصر خلال الأيام القليلة التي سبقت قيام الثورة، بالإضافة إلى تفاصيل تشكيل الحكومة الأقصر عمرًا في تاريخ مصر.
حكومة الـ 18 ساعة
في 22 يوليو 1952 كان الملك فاروق قد استشعر الغضب الذي يشغل الشعب المصري في أعقاب مجموعة من الانتكاسات التي منيت بها مصر في الآونة الأخيرة ومن هنا قرر تشكيل حكومة جديدة، بقيادة أحد رجال السياسة والقضاء البارزين في هذا العصر وهو أحمد نجيب الهلالي باشا.
وقبل تشكيل هذه الحكومة كانت هناك العديد من الخلافات بين الهلالي باشا وحزب الوفد، فالهلالي كان قد عين وزيرا للمعارف في وزارة توفيق نسيم والتي أيدها حزب الوفد وأعادت دستور 1923 ثم انضم إلى حزب الوفد وأعيد وزيرا للمعارف عام 1937 قبل سقوط الوزارة، وفي فبراير 1942 عاد للمرة الثالثة وزيرا للمعارف وأقر مجانية التعليم الابتدائي التي نادى بها طه حسين المستشار الفني لوزارة المعارف في ذلك الوقت.
وفي يناير 1950 رفض الهلالي الاشتراك في الوزارة الوفدية واعتزل الحياة السياسية لكن في صيف 1951 مارس البعض ضغوطه عليه فخرج عن عزلته بعد إلغاء معاهدة 1936 بتصريح هاجم فيه الوزارة فقرر الوفد فصله من الحزب.
وفي مارس 1952 تولى الهلالي الوزارة لأول مرة، حيث رفع شعار التطهير قبل التحرير وشن هجوما على الوفد واعتقل عدد من العناصر الوطنية وحل البرلمان وأعلن الأحكام العرفية وفرض الرقابة على الصحف، وعّين في عهده محمد عبد الرؤوف باشا المفتش نائبًا، وكانت المرة الأولى التي يُعين فيها نائبًا لرئيس مجلس الوزراء، إلا ان هذه الوزارة سقطت في 2 يوليو 1952.
وفي 22 يوليو 1952، أعيد نجيب الهلالي إلى الوزارة إلا أنه استقال بعد 18 ساعة فقط لقيام ثورة 23 يوليو 1952، وتكليف علي باشا ماهر بتأليف الوزارة الجديدة، وذلك بحسب ما نشرته صحيفة الأهرام في عددها الأول بعد الثورة بتاريخ 24 يوليو 1952، والتي حملت "مانشيت" : "الجيش يقوم بحركة عسكرية سلمية"، وتناول العدد التصريحات الأولى التي أدلى بها اللواء محمد نجيب بعد قيام الثورة وقال فيها:" الجيش كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور"، وخبر اعتقال عدد من كبار الضباط، وحماية الجيش للمرافق العامة، وتولي اللواء محمد نجيب القيادة العامة للقوات المسلحة، وقبول استقالة وزارة الهلالي وتكليف علي ماهر بتأليف الوزارة الجديدة.
السادات في السينما.. روايات قادة ثورة 23 يوليو 1952
وبعد الثورة نشرت روايات لقادة الثورة ومنهم البكباشي محمد أنور السادات، الذي روى تفاصيل ليلة الثورة، خلال مؤتمر صحفي عقد في 25 يوليو 1953، حيث اجتمعَ الصحفيون الأجانب في دار «أخبار اليوم» بعدد من قادة ثورة يوليو.
وأكد السادات أنه خلال الساعات الأخيرة التي سبقت الثورة كان قد عاد من الإسكندرية مساء يوم 22 يوليو 1952، ولم يكن يعلم بساعة الصفر، فاصطحب زوجته "جيهان السادات" إلى السينما، ويقول السادات: " تعودت أن أذهب في أيام إجازتي إلى سينما صيفية نظرًا لاشتداد الحرارة، ولم يكن عندي أدنى فكرة بأن الأوامر قد تغيرت وأن الرأى قد استقر على تنفيذ خطتنا بعد منتصف ليل 22 يوليو".
وتابع: "تصادف أن قطع النور الكهربائي في السينما التى كُنت بها، وتعطل العرض بعض الوقت وكانت النتيجة أننا انصرفنا من السينما متأخرين نصف ساعة عن الموعد المعتاد"، وأضاف: "ذهبت إلى المنزل وشد ما كانت دهشتي، أن وجدت ورقة تركها لي البكباشي جمال عبد الناصر يخبرني فيها أن الأوامر قد تغيرت وأنه قد تقرر القيام بالحركة بعد منتصف الليل، ولم تكن رسالة جمال رمزية ومبهمة، وإنما كانت مكتوبة بصراحة تامة".
وأكمل قائلا: "ارتديت ملابسي العسكرية وركبت السيارة وتوجهت إلى مقر القيادة بكوبري القبة، وعندما وصلت إلى سلاح السواري أوقفني بعض الضباط الصغار ومنعوني من المرور، إذ كانت الحركة قد بدأت وصدرت الأوامر المشددة بمنع مرور أى ضابط".
سر التأجيل 24 ساعة
وأضاف: «كُنا قوات قليلة حوالي 90 ظابط، والخطة لم تكُن بلغت لكل الناس، زي دلوقتي، كنت بمُر على الظباط، من الصبح اللى هيشتركوا في الثورة، وكان كُلي ثقة وإيمان في الله وفي هذا الشعب، وبعد الضهر اجتمعت القيادة وقررت تنفيد الثورة، وكان من المفترض أنها تُنفذ في ليلة 22 يوليو ولكن لم تكُن الخطة اكتملت".
وبسبب عدم اكتمال الخطة، أجل الثٌنائي عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر الثورة لمدة 24 ساعة، حتى تكتمل الخطة ويتم إبلاغ كافة القيادات المُشتركة، وتم اختيار توقيت الثورة نظرا الملك فاروق كان يقضي عطلة الصيف في مدينة الإسكندرية.
أزمة تسجيل البيان
نجح الضباط الأحرار فى صباح 23 يوليو 1952 فى السيطرة على الإذاعة فى تمام السادسة والربع صباحا، حيث وصل أنور السادات إلى استوديوهات الإذاعة، بشارع علوى، وأبلغ العاملين في الإاعة بأن هناك بيانا مطلوب إذاعته، وفي تمام السابعة والنصف تأهب مذيع النشرة فهمى عمر لتقديم أنور السادات، ليقرأ السادات البيان الأول للثورة، فى مستهل نشرة الأخبار، واستغرقت تلاوته دقيقتين ونصف، واختتم القراءة بذكر موقع البيان، اللواء أركان حرب محمد نجيب، القائد العام للقوات المسلحة.
وما كاد السادات ينتهى، من قراءة البيان، حتى تركه لأحد الضباط، القائمين على حراسة الإذاعة، وعاد إلى مبنى رئاسة الجيش، ولم يتم تسجيل البيان عند إلقائه فى المرة الأولى، بصوت أنور السادات، لأنه لم يكن معروفًا لدى الإذاعة، وقتئذ، نظام التسجيل بالأشرطة البلاستيك، بل كان التسجيل يتم بأشرطة صلب بماكينات كبيرة وصغيرة، بعد وصول المهندس المختص، بعد الساعة التاسعة صباحًا يوميا.
وبعد مغادرة أنور السادات دار الإذاعة، بعد إلقائه البيان الأول، كثرت الاتصالات، مع الإذاعة، لإعادة إذاعة البيان، نظرًا لأن فئات عديدة، من الشعب، لم تتح لها فرصة الاستماع إليه، وتم قراءة البيان عن طريق أكثر من شخص ومنهم ضباط في الجيش، إلا أنه كان به الكثير من الأخطاء اللغوية، ولم يسجل البيان، بصوت أنور السادات، إلا خلال الاحتفال، الذى أُقيم بمناسبة مرور ستة أشهر على قيام الثورة، أي في يوم 23 يناير 1953.
مذكرات تحية عبد الناصر.. الأسبوع الأخير قبل الثورة
وفي 24 سبتمبر 1973، كتبت زوجة الزعيم الراحل، السيدة تحية عبد الناصر مذكراتها على ورق مسطر في نحو 175 صفحة وأودعها أبناؤها وبناتها خزانة أحد البنوك لاختيار الوقت المناسب لنشرها، وذلك بعد أن سبق أن كتبتها أول مرة عام 1959 أيام الوحدة بين مصر وسوريا وأمضت في كتابتها ثلاث سنوات بعلم الرئيس، ثم قررت حرقها.
وتسلط المذكرات الضوء على الأسبوع الأخير قبل الثورة، حيث قالت "فى الليلتين قبل الثورة لم ينم (عبد الناصر) وظل بملابسه العادية جالسا في حجرة السفرة على الترابيزة يشتغل، وفى الصباح في الساعة السابعة يدخل الحجرة ليستبدل بملابسه الملابس الرسمية ونتناول الإفطار سويّا، وفي يوم 22 يوليو 1952 الساعة السابعة صباحا، دخل جمال الحجرة وكان يلبس الملابس العادية، القميص والبنطلون ولم ينم طوال الليل، جلس في حجرة السفرة يشتغل كالليلة السابقة، حياني واستعد للخروج واستبدل بملابسه العادية الملابس العسكرية وتناولنا الإفطار سويّا، خرج ورجع عند الظهر، وتناول الغداء مع الضباط وظل معهم في الصالون وحجرة السفرة وقتا ثم خرج الضيوف، تحدث معي جمال وقال: لم لا تخرجين وتأخذين معك هدى ومنى وخالد وتذهبون للسينما والجو حار وتتسلون ويذهب معك إخوتي.. فقلت: نعم سأفكر في الذهاب، وحيّاني وخرج.
وتتابع "تحية عبد الناصر" في مذكراتها: "وقبل الساعة الحادية عشرة مساء قمت ودخلت حجرة النوم، رجع جمال ودخل الحجرة، فقلت في نفسي: إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو ذا الليلة سينام مبكرا، وجدته بعد أن غسل وجهه فتح الدولاب وأخرج البذلة العسكرية ووجدته يرتديها، فقمت وجلست وقلت له بالحرف: أنت رايح فين بالبدلة الرسمية دلوقت؟ وكانت أول مرة أسأله أنت رايح فين منذ زواجنا، فرد علىّ بكل هدوء وصدر رحب قائلا: أنا لم أكمل تصحيح أوراق كلية أركان حرب ويجب أن أنتهي من تصحيحها، وغدا تكون كلها كاملة التصحيح، ومنذ يومين وأنا أشتغل هنا، والضابط الذي يجلس معي ونشتغل سويّا قال لي نسهر الليلة في بيته نكمل تصحيح الأوراق، وسأذهب إلى الكلية وسوف لا أرجع البيت الليلة، وانتظريني غدا وقت الغداء، وحياني وقبل خروجه من الحجرة قال لي: لا تخرجي.
وأكملت في روايتها وصف لحظات الرعب التي انتابت الأسرة بعد سماع طلقات الرصاص في منتصف الليل، وخوفها على حياة زوجها جمال عبد الناصر، إلا أن قلبها كان قد اطمأن بسماع الراديو والبيان الذي قرأه أنور السادات.