نعم إنها حياتنا التي نحياها بما تحمله من متغيرات، وبما تعج به من متناقضات، نعم نحياها بحلوها وبمرها، بشرها وبخيرها، بحبها وكرهها، بجمالها وقبحها.
نعم نحياها لأن الله عز وجل وهبها لنا للكد والتعب والكفاح، لذا أوجب علينا أن نتعايش مع كل هذه الظروف المحيطة بنا دونما جزع أو يأس، وإنما بجلد وصبر وتحمل للمسؤولية.
وإذا كان ذلك كذلك فإن الله تعالى أعطانا مقوم رئيس وقوة دافعة تدفعنا دفعا للتعايش مع بني جلدتنا، هذه القوة الدافعة هى فضيلة التسامح بل وأعتقد أنها من أمهات الفضائل التى تتحول بالإنسان بما هو إنسان تتحول به من ضميره الفردي إلى الضمير الجمعي من إنسان يكون متسامحا مع نفسه إلى إنسان يتسامح مع الآخرين الذين يحملون نفس صفات الإنسية، ليس هذا وحسب بل ويعيشون على نفس الكوكب، فحري بمن يحمل كل هذه الصفات أن تتوافر بداخله هذه القيمة وأن يبدي تسامحا ومرونة في تعامله مع الآخر.
السيدات والسادة، جميعنا يرى ويسمع ويشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي، أن فلان قتل فلان، أو أن س تشاجر مع ص، أو أن عمرو خاصم زيد، سبحان الله العظيم، وعندما تستمع للأسباب تجدها أسباب واهية لا تستدعي كل هذا التناحر والتشاجر والتقاتل، هل يصح ويليق بأمة، الأديان هادية لها أنه لمجرد أن طفلين تشاجرا مع بعضهما البعض تقوم القيامة ولا تقعد وقد يصل الأمر بأولياء الأمور أن يرفع السلاح على بعضهم البعض، هل يجوز أن يحدث هذا في أمة كرمها الله من فوق سبع سماوات أن يحدث شجار وترفع الأسلحة البيضاء في المساجد، هل يليق بنا أنه لمجرد خلاف في الراي بين الأساتذة يحدث الخصام والمقاطعة بالشهور وبالسنين.
ما الذي أصابنا، ما هذا السفه والعته الذي أصاب أمة قال عنها الله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس".
ما هذا الخلل والعطب الذي أصاب العقول، لماذا كل هذه الصراعات والخلافات، أعلى منصب نتصارع، أعلى جاه نتشاجر، أعلى مال نكيد المكائد لبعضنا البعض.
هل حقا هذا صراع حقيقي أم صراع مصطنع اصطنعته الظروف والأوضاع التي وجدنا فيها، هل الإنسان شرير بطبعه، أم أن الإنسان خير بجبلته وفطرته التي فطره الله عليها.
السيدات والسادة، الإنسان خير بطبعه يحب الخير ويسعى إليه قاصده، الإنسان بطبعه متسامح مع ذاته ومن ثم مع الآخرين.
إننا نعيش جميعا في مكان واحد مهما اختلفت الحدود الجغرافية تلك الترسيمة البشرية، لكننا إخوة في الإنسانية يجمعنا قاسم مشترك بين الجميع ليس ثم فروق طبقية وليس ثم صراع طائفي، وليس ثمة عنصرية، فالكل لآدام، وآدم من تراب، يجمعنا قاسم مشترك هو نزعة الحب التى تنبض بها القلوب وتهذبها العقول وتراعى ثمارها الأفئدة.
هل حقا الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، يتحين الفرص عليه حتي ينقض عليه.
حتى وإن كان قالها توماس هوبز، أظنه قالها في فترة معينة ووقع في خطيئة التعميم، قالها وقت الإطاحة بالملك شارل الثاني، لكنه عدل عن رأيه هذا بقوانين للإنسانية أهمها نشر السلام والتسامح بين الشعوب، ومعاملة الإنسان بما يحب أن يعامله به الآخرون.
حروب هنا وهناك، تهديدات واستعراض للقوة العسكرية وآلات الحرب الفتاكة لماذا، يا سادة لبسط النفوذ والهيمنة والسيطرة اللوجيستية، وأين الإنسان من كل ذلك، لماذا جعلتموه يدفع الثمن، وتنسحق ذاته وتدوسها جنازير الدبابات والمدافع الثقيلة، لماذا فتكتم به محطمين إياه ماديا ومعنويا، لماذا تحاولون وأد صفة الإنسانية بداخله، لماذا تريدون تحويله لآلة جمادية، لروبوت آلي.
السيدات والسادة، إياكم ثم إياكم أن تعيبوا على الزمان وعلى الظروف، لا تجعلوها شماعتكم التي تعلقون عليها أخطاءكم.
نعيب زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا.
كل منا واجب عليه أن يفتش في ذاته ويبحث عن الحلقة المفقودة بداخله، كيف يعلي قيمة التسامح مع الآخر.
وبعد،،،،،،
حري بنا أن نقدم تعريفا اصطلاحيا ولغويا لقيمة التسامح، وموقف الأديان من التسامح، وموقف المفكرين والفلاسفة والمصلحين من هذه القيمة.
مفهوم التسامح لغة واصطلاحا.
التسامح إصطلاحا هو القدرة على العفو عن الناس، وعدم رد الاساءه بالإساءة والتحلى بالاخلاق الرفيعة التى دعت لها كل الديانات والأنبياء والرسل مما يعود بالنفع والخير للفرد والمجتمع.
فمن خلال هذه القيمة الخلقية تتحقق الوحدة والتضامن والتماسك والابتعاد عن ما يفسد المجتمع من خلافات وصراعات، بل ويحقق احترام الثقافات والعقائد وقيم الآخرين ومن ثم يتحقق العدل والمساواة والحرية.
أما فى اللغة، فمعنى السماحة من ماده سمح تدل على سلاسة وسهولة،والمسامحة تعنى المساهلة، وسمح بكذا يسمح سموحا وسماحة، جاد وأعطى، أو وافق على ما أريد منه.
دعت كل الاديان الى المسامحة والتسامح ولا سيما الدين الإسلامي الذي جعل التسامح من الأمور المندوبه باتفاق العلماء وليس بواجب فلا يجب على من له حق مادى أو معنوى أن يسامح فهو إن شاء عفى وإن شاء استرد حقوقه كاملة. ولكن من الأمور المستحبة التي حببت إليها كل الأديان التصافي والتسامح والملاطفه فى التعامل مع الأخرين فهو واجب ولا يجوز للمسلم أن يكون فظا غليظا ولا عنيفا.
يقول الله تعالى (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ).
وقد أمر الله تعالى المسلمين بالتعايش مع أصحاب الديانات الأخرى بالتعايش السلمى معهم وملاطفتهم يقول الله تعالى(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من ديا ركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).
وقد محا الإسلام الجاهلية وما فيها من محرمات وأباطيل، ومنها العصبية العرقية أو الإقليمية مصدقا لحديث الرسول صل الله عليه وسلم "كلكم لآدم وآدم من تراب"
وقد بان ذلك جليا عندما وبخ النبي الصحابي سيدنا أبا ذر عندما عير سيدنا بلال بسواد بشرته، قال له النبي صل الله عليه وسلم، إنك إمرو بك جاهلية.
كذلك رفض الإسلام الطائفية المقيتة البغيضة فالدين لله والتعايش للجميع في وطن واحد.
وقد وضع الأزهر الشريف شرفه الله، وثيقة الإخوة الإنسانية والتي وقع على بنودها فضيلة الإمام الأكبر من بابا الفاتيكان
بل وأباح الإسلام أكل طعام أهل الكتاب والزواج من نسائهم.
ليس هذا وحسب بل وجاءت سماحة الإسلام فى أسرى الحرب لقائد الدولة الإسلامية وذلك بأحد الأمرين،الأول إطلاق صراحهم وتحريرهم دون مقابل مثلما فعل النبي مع أهل مكة قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء .
وثانيهما، إطلاق صراحهم بمقابل وهو ما يعرف بالفداء (فإما منا وإما فداء ).
فالاسترقاق لم يكن أحد الخيارات المتاحة فى التعامل مع الأسرى من الكفار.
ومن الآيات الكريمة التى وردت فى التسامح ( خذ العفو وأمر بالعرف ).
وأيضا (فاعفو عنهم واصفح، إن الله يحب المحسنين ).
وكذلك قوله تعالى (فاصفح عنهم وقل سلام ).
نعم التسامح فضيلة دعت إلى إعلأها كل الأديان السماوية، فنجد المسيحية تحدثت عن التسامح واعلاء قيمة المحبة وأن تحسن إلى جارك وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك كل ذلك ذكره عيسى المسيح عليه السلام في مواعظه على الجبل.
فعلها سيدنا موسي مع قومه وسامحهم بعد أن ألقى الألواح وغضب غضبا شديدا ولما هدأ روعه عفى وأصلح.
نعم التسامح فضيلة وقيمة من القيم التي تضمن حياة سعيدة ومطمئنة ليس للفرد بما هو فرد بل للمجتمعات المحلية والإقليمية والعالمية، وتلك كانت دعوة المفكرين والفلاسفة منذ القرون الأولى قبل الميلاد إلى وقتنا هذا، فها هو ديمقريطس فيلسوف الذرة وبمسحة صوفية يقول أن تقدم منشرح الصدر على فعل الخير متسامحا فإن ذلك يجعلك تقضي نهارك سعيدا، ومن قبله كونفوشيوس، ومن بعدهما سقراط وافلاطون في جمهوريته التى دعا فيها إلى المواطنة والتعايش السلمي والتسامح للجميع، وكذلك جاءت روح الفلسفة في العصور الوسطى الإسلامية والمسيحية دعوة للتسامح والمحبة وهذا ما عبر عنه الفارابي في مدينته الفاضلة، وتناوله أوغسطين في مدينة الله التي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال التسامح في المدينة الأرضية.
وكذلك ما تحدث عنه ايمانويل كانط في كتابه المشروع الدائم للسلام العالمي الذي أسس مبانية على فكر الفيلسوف الإسباني ريموند لول أحد دعاة التسامح العالمي في العصور الوسطي.
التسامح روح الحياة.
فهل تسامحنا ومددنا أيدينا إلى بعضنا البعض وتصافحنا.
هل من كانت به خصلة من خصال الجاهلية يدعها.
هل من كان متخاصما يبدأ بالسلام، فخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
هل من كان له مظلمة عند أخيه يعفو عنه ويصفح، ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
هل من قدر يعفو.
العفو والسماحة من صفات الله تعالى، إلا الشرك به تعالى فلا صفح ولا تسامح إلا بتوبة واستغفار واسترجاع.
العفو اسم من أسماء الله.
العفو يصاحبه الحلم، والحلم يتبعه العفو.
(عفا الله عنها والله غفور حليم)
آراء حرة
في فلسفة التسامح.."فاصفح الصفح الجميل"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق