كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الفوائد العديدة للعمل 4 أيام فقط أسبوعيًا بدلًا من 5 أيام، بواقع 8 ساعات يوميًا، وكيف يمكن أن يُسهم العمل لمدة 32 ساعة فقط أسبوعيًا بدلًا من 40 ساعة، في تحسين الرضا الوظيفي والعمل الجماعي والولاء لمؤسسات العمل، إضافة إلى تحقيق التوازن بين العمل والحياة مقابل تخفيف الإرهاق والتوتر، لصالح جودة حياة الموظفين ورفاهيتهم، دون التأثير على الإنتاجية.
إنها تبدو فكرة كالحلم المستحيل لو عاد بنا الزمن إلى أواخر القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1890، عندما قررت الحكومة الأمريكية تحديد عدد ساعات العمل المنتظم في الأسبوع لتبلغ 100 ساعة. وبين هذا العدد ومتوسط 32 ساعة الآن فإن الفرق يبدو ضخما ويعكس تطور ثقافة العمل والجهد المبذول من الحركة العمالية على مدى أكثر من قرن.
لكنْ هل ينفع هذا التخفيض في ساعات العمل داخل أجهزة الدولة المصرية؟ سيقول المواطن قولًا واحدًا: "لا"؛ والسبب أن المواطن يشتكي حاليًّا من الازدحام في تلقي الخدمات وقلة الموظفين، أو بالأحرى ضعف إنتاجيتهم، حيث أصبح هناك روتينٌ معروفٌ يعمل بمقتضاه الموظف منذ عقودٍ فيضيع نصف ساعة في الفطار الصباحيِّ، ونصف ساعة أخرى للصلاة، إضافة إلى عدم اكتمال عدد مقدمِّي الخدمة بسبب الإجازات العارضة والمرضية والسنوية وطرق "التزويغ" غير القانونية. وهو ما يجعل الانتاجية الصافية للموظف ضعيفة ويمكن أن يصل معدلها إلى 3 ساعات فقط أسبوعيًا وهو الأضعف عالميًا وفقًا لعدد من الدراسات.
ربما لو سألنا نفس السؤال حول جدوى هذا النظام في دول أخرى فستكون الإجابة مختلفة. لم يعد من الصعب الآن رفع إنتاجية العامل أو الموظف في دول عديدة متقدمة بفضل التقنيات المتطورة التي تجعل من الممكن للموظفين إنجاز نفس القدر من العمل في وقت أقل، حيث تُعقدُ الاجتماعات الافتراضية من خلال التطبيقات المتطورة بين الموظفين والخبراء والمستشارين حتى لو كانوا في بلدان مختلفة وقارات متباعدة. كما أن العمل الروتيني أصبح ميسرًا إداريًا بفضل طباعة الخطابات وحفظها آليا مع سهولة تبادل البيانات، وكذلك الأمر بالنسبة لمراجعة الحسابات وتقييم الأداء مع توفر المراسلات الإلكترونية السريعة والمنخفضة التكاليف، والموفرة للكثير من المال والوقت.
لذلك رحبت العديد من الدول بتطبيق نظام العمل 4 أيام أسبوعيًا، على سبيل التجريب، مثل بلجيكا وأيرلندا واسكتلندا ونيوزيلندا واليابان وآيسلندا وبريطانيا وغيرها. بعض الشركات اختارت أن يعمل جميع الأشخاص من الاثنين إلى الخميس، وفي أخرى يتم السماح بالتناوب على يوم العطلة الإضافي، كذلك بنفس مزايا العمل لمدة 5 أيام، بما في ذلك الرواتب، والحوافز، وسيتيح لهم ذلك قضاء وقت أطول مع أسرهم، والعمل على تطوير أنفسهم، والمزيد من التعلم والترقي، والسفر، وممارسة الهوايات، وغيرها من الأنشطة الاجتماعية المفيدة لصحتهم وحالتهم النفسية، إضافة إلى خلق محفزات جديدة للاستهلاك من خلال الخروج والسفر والرحلات. وهي أهداف للنظام الرأسمالي الذي يبحث عن نفسه مجددا بعد كثرة مشكلاته الاقتصادية من ذلك خفض تكاليف التشغيل، وجذب عدد أكبر من المواهب وكذلك تقليل الضغوط والإرهاق على الموظفين بعد تراكم مشكلاتهم وتدهور صحتهم وضياع قيم الأسرة في تلك الأثناء ومعها الرغبة في الإنجاب وتربية الأبناء. يضاف إلى تلك المزايا خفض تكاليف الطاقة وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون والسيولة المرورية.
بريطانيا على سبيل المثال اختارت أن تُخْضِعَ التجربة للتقييم من خلال البدء ب 30 شركة فقطة، لمدة 6 أشهر. ويتم تنفيذ التجربة تحت إشراف شركة بحثية تُدعى (أوتونومي)، ويتابع عدد من الباحثين بجامعة أوكسفورد عملية التنفيذ، مع جامعتي بوسطن وكامبريدج، وذلك بهدف تقييم آثارها، وصولًا إلى الرأي الفاصل بشأن مدى ملاءمة تطبيقها بشكل دائم حال نجاحها.
لا أدري ما موقف قانون الخدمة المدنية إذا ما فكرت مصر في تطبيق نظام 4 أيام بدلًا من 5 أيام، لكن المطلوب أولا تغيير بيئة وثقافة العمل مع إدماج وتعميم التقنيات المتطورة في العمل التي مازالت محدودة ومقصورة على المكاتب الفنية للوزارات والشركات الكبرى. في حين تتحدث دول ليست بعيدةً عنّا جغرافيًا عن إدخالها تقنية الذكاء الاصطناعي في دواليب عمل الحكومة والجهاز الإداري والشركات. لعلّ بيئة التجربة في مصر تكون أكثر جاهزية ومسلحة بعناصر النجاح إذا ما خرج جيلٌ إلى المعاش كان ينتمي إلى أنظمة قديمة وروتينية في العمل. الجيل الشابُّ أقدرُ على قيادة التجربة ولعلها تكون في العاصمة الإدارية الجديدة قريبًا جدا على أرضية مزودة بفرص النجاح.
olfa@aucegypt.edu
آراء حرة
أربعة أيام فقط!
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق