الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأنبا مكاريوس يكتب لـ"البوابة": الصعود والجسد البشري

الأنبا مكاريوس
الأنبا مكاريوس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

«وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا» (يوحنا14 :3)

عيد الصعود ليس أكبر الأعياد السيدية، ولكنه آخر حدث في أيام تجسد الرب، وكذلك آخر ظهور للسيد المسيح  بعد قيامته.

وقد مهد السيد المسيح للتلاميذ لصعود بالجسد ومفارقتهم، ونبههم أنه سيرسل لهم الروح القدس المعزي، والذي سيكمل معهم فيعلمهم ويرشدهم، وأنه لن يتركهم يتامى، وكان لهذا التمهيد ثمرته فعند صعوده: «سجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم». (لو  24 :  52).

ملاحظات حول الصعود:

1- يعود من حيث أتى:

الصعود أكد أن الذي تألم وقبر وقام هو الله، لأنه يعود من حيث أتى، وإلى ذلك أشار الرب يسوع خلال حديثه مع نيقوديموس: «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء». (يو 3 : 13)، وفي هذا رد على الذين شكوا في إرساليته من الآب «خرجت من عند الأب وقد أتيت إلى العالم وأيضًا أترك العالم وأذهب إلى الأب» (يو 16 : 28)، وها هو يتمم عمله ليعود الى الأب: «أنا مجدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني لاعمل قد أكملته». (يو 17 : 4)، ومن ثمّ يعود إلى مجده.

2- الصعود والجسد البشرى:

لم يشأ يسوع أن يترك جسده في الأرض، فصعد به ليكرم البشرية جمعاء فيه، كما أن صعود الرب كان باكورة البشرية التي سبق المسيح فاصعدها ونصلي في القداس الغريغوري: «أصعدت باكورتي إلى السماء» ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: «أساس كل الخيرات هو هذا اليوم الذي نحتفل به (عيد الصعود) لأن فيه صعدت باكورة طبيعتنا الإنسانيّة إلى الله. مثلما يحدث في الحقول المنثورة بالقمح، عندما يأخذ الإنسان قليلًا من السنابل ويصنع حزمة ويقدمها لله، فهو يبارك بهذه الحزمة كل الحقل. وهذا ما صنعه المسيح. بهذا الجسد وهذه التقدمة الفريدة. إذ بارك كل الجنس البشريّ». فأي مجد نال الطبيعة البشرية الترابية فالجسد المأخوذ منها تمجد بالمجد الإلهي. مع أن السيد المسيح أزلي مع الآب إلاَّ أن صعوده كان لأجلنا، ليقدمنا للآب، هكذا يقول القديس بولس: «لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا» (عبرانيين9 :24)، وإن كان قد أكرم جسد أمه العذراء فلم يتركه على الأرض فكم بالأحرى جسده هو.

ليس تكريم للجسد فقط بل للمادة أيضًا والتي اعتبرها بعض الهراطقة نجسة مثل ماني فحرم الزواج وأكل اللحم وشرب الخمر، فعلمنا السيد المسيح أن المشكلة ليست في المادة وإنما في سوء استخدامها، بل في العهد الجديد لم تعد حتى عظام الأموات نجسة بل صرنا نتبارك بها ونسارع لاقتناء أقل جزء منها. هذا ما جعل أريوس يعتقد أن الله لا يمكنه الاتصال بالمادة وبالتالي فقد خلق المسيح ليخلق به العالم.

3- صعد بجسده هو:

أثبت صعود المسيح أن الجسد الذي صعد به، هو جسده الخاص، وليس جسدًا مستعارًا لاتمام المهمة، كما ادعى المبتدعون مثل نسطور، وأكد أنه ليس ملاكًا ولا نبيًا بل هو الله ذاته الذى هو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمه قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس فى يمين العظمة فى الأعالى (عب 1 : 3).

وتقول الكنيسة إنه اتخذ جسدًا «آف إتشى ساركس»، فلم يولد يسوع الناصري انسانًا عاديًا، ثم حل عليه الروح القدس في الأردن ليتمم المهمة الخلاصية، ومن ثم فارقه من جديد عند الصلب، أو أن اللاهوت اتحد لاحقًا بالناسوت اتحاد المصاحبة، بل حدث الاتحاد الاقنومى في بطن العذراء في زمن مدته صفر، ومن هنا صعد معه جسده، لأنه كان معهم وأكل قدامهم ولمسوه وباركهم: «انظروا يدي ورجلي أني أنا هو جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي» (لو 24 : 39).

4- سابق لأجلنا:

يقول القديس بولس عن صعود المسيح «حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد» (عب 6 : 20)، وهو يشير إلى رئيس الكهنة الذي كان يدخل الأقداس مرة في السنة يقدم ذبيحة عن نفسه أولًا ثم عن الشعب، حيث قدس الأقداس ممنوعًا على الشعب العادي، ولكن السيد المسيح شق الحجاب ليمهد لنا الطريق إلى الأقداس، ودخل كسابق لأجلنا أى ليمهد الطريق لنا، ويعد المكان ليأتى ويأخذنا إليه، لنحيا معه في مجده «أيها الأب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدى الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو 17: 24).

5- مرساة:

عندما دخل السيد المسيح إلى الأقداس، عمل كمرساة في الحياة الأبدية لسفينتنا التي لا تزال في العالم، حيث المرسى النهائي وموضع راحتنا الذي نتوق إليه، ليس كالراحة التي سعى إليها بنو إسرائيل وقادهم يشوع إليها، عن ذلك قال القديس بولس: «لأنَّهُ لو كانَ يَشوعُ قد أراحَهُمْ لَما تكلَّمَ بَعدَ ذلكَ عن يومٍ آخَرَ فلنَجتَهِدْ أنْ نَدخُلَ تِلكَ الرّاحَةَ» (عبرانيين 4: 8-11).

والمرساة هي الأداة التي تُثبَّت بها السفينة في الأرض، فعلي الرغم من أن السفينة لا تزال في المياه، لكنها تصبح آمنة طالما ضربت المرساة في اليابسة، ومن هنا أُطلِق على المرساة «الهِلب» أي الرجاء، وصارت علامة الهلب أو الخطاف رمزا، وتُستخدَم كرمز مسيحيي للخلاص والنجاة منذ البداية.. هكذا السيد المسيح عمل لنا كمرساة في الأبدية، حتى وإن كُنّا ما نزال نحيا على الأرض فنحن مطمئنون إلى أن سفينتنا آمنة «الّذي هو لنا كمِرساةٍ للنَّفسِ مؤتَمَنَةٍ وثابِتَةٍ، تدخُلُ إلَى ما داخِلَ الحِجابِ» (عبرانين 6: 19).

6- وجلس عن يمين أبيه:

وجلس عن يمين أبيه تتميمًا لقوله على فم داود النبى قائلًا: «قال الرب لربى أجلس عن يمينى حتى أضع أعدائك موطئًا لقدميك» (مز 110 : 1) وفى موضع آخر رد الرب يسوع على رئيس الكهنة قائلًا: «من الآن تنظرون إبن الإنسان جالسًا عن يمين عرش الله» وكلمة «عن يمين الله» لا يقصد بها أن الله محدود أو جغرافية مكان، فهو مالىء كل مكان ولا يحويه مكان، ولكن كلمة يمين تعني القوة والعظمة والمقام الملكى السماوى، مثلما نقول يمين الرب صنعت قوة يمين الرب رفعتني.

وقد رآه استفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء ابن الانسان: «وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس، فرأى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين الله فقال ها أنا أنظر السماوات مفتوحة وابن الانسان قائمًا عن يمين الله» (أع 7: 55، 56).

7- في بيت أبى منازل كثيرة:

الصورة المألوفة لليهود آنذاك، هي البيوت التي ينزل فيها الحجاج الوافدين إلى أورشليم ليعيدوا الفصح، وفي الهيكل أُقيمت الكثير من المساكن متفاوتة الفخامة والأسعار، والخيمة هي ظل الهيكل والهيكل هو ظل الكنيسة، والكنيسة هي شبه أو ظل السماويات، والكنيسة هي المحطة الأخيرة قبل الأبدية، حتى الذين يموتون بالجسد ُيشيعون من الكنيسة كآخر محطة لهم في الحياة بالجسد لينتقلوا بالتالي إلى حياة أفضل.

وبالتالي ففكرة المنازل الكثيرة المتعددة الدرجات، توحي بما قاله القديس بولس: «مجد الشمس شىء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر لأن نجما يمتاز عن نجم في المجد» (1كو 15 : 41). فليس من المنطقي أن تكون درجة القديس بولس أو الأنبا أنطونيوس أو البابا أثناسيوس، مثل درجة مجاهد بسيط، ففي ترتيب الكنيسة: السيدة العذراء ثم السمائيون ثم الرسل فالشهداء فالمعترفون فالقديسيون.

8- صعد من بستان:

سقط آدم في بستان «جنة عدن» وافتدى في بستان «جسيماني» حيث قدم المسيح مشيئته للأب، وبعد الصلب دفن في «البستان»، واليوم يصعد أيضًا من بستان «جبل الزيتون».

وفي البستان التقى آدم الأول وآدم الثاني، آدم الذي مات فيه الجميع، وآدم الذي يحيا فيه الجميع، وجاء في بعض التقاليد أن عظام آدم كانت مدفونة في البستان الذي صلب فيه المسيح، «هكذا مكتوب أيضًا صار آدم الإنسان الأول نفسًا حية وآدم الأخير روحًا محييًا» (كو 15 : 45). «لأنه كما فى آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع» (1كو 15 : 22).

وهكذا كان صعوده من قمة جبل الزيتون «بستان» الذى كان فى مواجهة الباب الشرقى لأورشليم وحاليًا يوجد على هذا الجبل كنيسة باسم الصعود.

9- اطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس:

منذ لحظة الصعود وأنظارنا متعلقة بالسماء حيث المسيح جالس: «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله» (كو 3: 1) حيث يوجد المسيح تتعلق قلوبنا، نشتاق إليه لنوجد في معيته، سيفرح بنا مثلما نفرح به: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (يو 12: 32).

إن الأمر يشبه الزوج الذي سافر الى بلد بعيد ليعد لزوجته مكانًا، وهو يتابعها وهي في بلدها، ويحاول تذليل العقبات التي تواجهها حتى تأتي لتحيا معه، وهكذا سيكون العرس السمائي، لقد ظفر المسيح بالشيطان ومملكة الموت والظلمة، واقتنى كنيسته التي خرجت من جنبه، وتعهدها بعد قيامته، وصعد ليعد للعرس السمائي: «وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها» (رؤ 21 : 2) كما تحدث عن عشاء الحمل: «وقال لي أكتب طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف وقال هذه هي أقوال الله الصادقة» (رؤ 19 : 9).

10- الفرق بين صعود المسيح وصعود البعض:

بعض من الأنبياء صعدوا مثل إيليا وأخنوخ، والقديس بولس الرسول تحدث عن صعوده إلى السماء الثالثة، ولكن رب المجد يسوع المسيح صعد إلى السماء عينها، بقوة لاهوته الذى لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولاطرفـة عين من بعد الاتحاد، وقد ظن البعض أن صعود رب المجد يسوع المسيح إلى السماء من وحى الخيال، ولكن أيوب الصديق أعلن بروح النبوة تصديقًا لصعود الرب صعود حقيقى، وهو يتنبأ عن سر الثالوث القدوس قائلًا: «من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الرياح فى حفنتيه؟ من صر الماء فى ثوب؟ من ثبت جميع أطراف الأرض؟ وما اسمه ؟ وما اسم ابنه إن عرفت» (اي4:30). هكذا صعد الرب إلى السماء: موطنه الأصلى، مؤكدًا الإشارات والنبوات التى تمت فيه.

11- إعلان مجيئه:

كان السيد المسيح بصعوده يعلن إنه سيأتى كما صعد، لذلك انتظار مجئ المسيح هو عقيدة  نحياها كل يوم ونرتلها كل حين: «وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتى آمين». نعلن انتظارنا لمجيئه الثانى بثقة. بل تحولت تلك العقيدة إلى تحية مسيحية: «الرب آت = ماران أتا»، وأصبحت الكنيسة تحيا هذه المشاعر وتتوقع مجيئه بين لحظة وأخرى، وأصبحت أنظار المؤمنين به متعلقة بالسماء تترقب وصوله بين لحظة وأخرى، ومن ثم نتجه بصلواتنا جهة الشرق حيث صعد فإنه سيأتي هكذا (اع11:1).

12- أخيرًا: فإن صعود الرب هو ميراث الفرح الذي تركه لنا: فصعوده إعداد لصعودنا، وكلما واجهتنا الآلام والضيقات نتذكر مجيئه فنستخف بها.