الأزمة الأوكرانية الروسية، والحرب التي ما زالت مستمرة، وأدت إلى ارتفاع الأسعار العالمية والمحلية، علاوة على جشع التجار، كشفا المشاكل العملية في الرقابة التموينية.
فالأزمة الروسية الأوكرانية، ألقت بأعباء جديدة على العالم بأسره، وبصفة خاصة أصحاب الدخول المحدودة، من طبقة السواد الأعظم في المجتمع المصري، مع تفشي جرائم الاحتكار وغش الأغذية والتلاعب بالأسعار بالزيادة المستمرة، كل هذا أفرز خمسة أسباب لضعف الرقابة التموينية، أبرزها الأوضاع المالية لمراقبي الأسواق، الممنوحين صفة الضبطية القضائية، كما أن تعدد القوانين وتعديلاتها وكثرت القرارات الوزارية وتشعبها والأحكام القضائية الصادرة من المحكمة الدستورية بعدم دستورية بعض فقرات من نصوص قانوينة، تؤدي لصعوبة تطبيقها بالإضافة لعدم تناسب العقوبة مع مرتكب معظم تلك الجرائم حاليًا، فصارت غير رادعة، كما أن عدم التنفيذ الفعلي لعقوبة "العود" في جرائم غش السلع والأغذية وتداول المنتجات الغذائية، أدى إلى عدم اكتراث المسجلين في الجرائم التموينية بالعقوبة، فضلا عن الرسوم التي تفرضها المعامل المختلفة على جهات وزارة التموين على العينات المسحوبة والمرسلة لمعرفة غش وصلاحية المنتجات من عدمه، ورهن تلك العينات وعدم فحصها إلا بعد دفع تلك الرسوم التي تقررها.
وهناك مشاكل أخرى، لا يمكن تجاهلها، منها عدم وجود نيابات مختصة في قضايا تداول السلع والتلاعب بالأسعار، أو "نيابات تموين"، على غرار نيابة الأسرة والأحداث والمرو، ما يؤدي ذلك لبطء التصرف في قرارات وإجراءات المحاضر وإطالة أمد التقاضي.
وأوضح رؤيتي، بشيء من الإيجاز والتحليل لأهم خمس مشكلات عملية، بحثا عن حلول جذرية لكي يمكن مواجهة حرب السوق المحلية والعالمية الممثلة في الأسعار والجودة وتداول المنتجات.
أولًا: الأوضاع المالية لمفتشي، التي تعد من أهم أسباب ضعف الرقابة على الأسواق والمواد التموينية، وبالتالي انفلات الأسعار رغم كثرة القوانين، وبذلك أصبحت الدولة تشرع ولا تراقب، وتصدر القرارات الوزارية المتلاحقة ولا تعمل على ضبط الأسواق وبعد أن كان مفتش التموين في الماضي الرجل المرعب للمتلاعبين بالأسعار تغيرت المعادلة ليحل محلها المثل الشعبي الواصف لحال مفتش التموين، وهو يمشي في الأسواق "أُذن من طين وأخرى من عجين"، وانفلات الأسعار بات واقعًا مريرًا بتقاعس باقي الأجهزه المراقبة للأسواق منها جهاز حماية المستهلك وخطوطه الساخنة المرفوعة باستمرار وجهاز الرقابة والتوزيع عازفين عن القيام بدورهما في حماية البسطاء من جشع التجار وإعادة الانضباط.
فتدني راتب مفتش التموين، مع عدم وجود موارد تدر دخل له يكفي احتياجاته ومتطلبات أسرته، مع تعامله في ذات الوقت في عمله مع أصحاب المتاجر الكبرى والمصانع والشركات، تؤدي بالطبع إلى الانحراف وغض الطرف عن المخالفات الواقعه مقابل الهدايا والهبات الشهرية على أصحاب المحلات وتجار السلع والمنتجات، وعلى وزير التموين الذي يبذل مجهود خارق في السنوات الماضية ليؤمن وصول السلع التموينية لمستحقيها، وضع معايير الاختيار شخصية مفتش التموين وتحسين أوضاعه المالية،وفرض جزاءات قوية علي من يثبت تربحه من وراء الوظيفة.
ثانيا: سن قانون شامل ورادع، لكل ما يخص تداول السلع والمنتجات المحلية والمستوردة وحركة الأسواق مع إلغاء كل ما سبق.
وهو دور مجلس النواب، المخول له السلطة التشريعية، حيث تأتي كثرت القوانين والقرارات الوزارية وتشعبها بطريقه غير عادية من العوامل المهمة التي تؤدي إلى عدم تطبيق صحيح القانون علي الوقائع،وباتت الحاجة ملحة لتدخل مجلس النواب للإلغاء وتعديل ودمج بعض القوانين والقرارات الوزارية في قانون واحد حديث يواكب التطورات مع إلغاء كل الماضي، لأننا حتى الآن نسير في منهج المرسوم بقانون 45 لسنة 1945، والمعدل بعض نصوصه في السنوات المتعاقبة كثيرًا جدا ويوجد من عام 1950 حتى تاريخه العشرات من القرارات الوزارية والعقوبات المنصوص عليها في تلك القوانين يتراوح فيها الحبس من سنة إلى خمس سنوات أو الغرامة التي لها حد أدنى وحد أقصى وفي النهاية عندما يصل المتهم لآخر جلسة في المحاكمة غالبًا يكون الحكم بوقف تنفيذ عقوبة الحبس وتحكم بالغرامة وتلك العقوبة كانت مناسبة وقت صدور هذا القانون أما الآن فهي هشة وغير رادعة.
ثالثا: عدم التنفيذ الفعلي لعقوبة "العود" في جرائم غش السلع والتلاعب بالأسعار وتداول المنتجات، فقد نص قانون العقوبات على مضاعفة العقوبة في حديها الأدنى والأقصى؛ فإذا كان قد سبق الحكم على العائد مرتين بالحبس والغرامة، ثم ثبت ارتكابه جريمة معاقبا عليها بالحبس والغرامة تكون العقوبة السجن لمدة لا تزيد على خمس سنوات وغرامة لا تقل عن 500 جنيه، ولا تجاوز 2000 جنيه، وتعتبر جرائم متماثلة في "العود" الجرائم التي ترتكب بالمخالفة لأحكام المادة 95 من المرسوم بقانون رقم 163 لسنة 1950 الخاص بشؤون التسعير الجبري وتحديد الأرباح ونطرح هذا القانون على سبيل المثال.
والمشكلة هنا في عدم تنفيذ العقوبة على العائد لارتكاب ذات الأفعال المجرمة والسابق معاقبته عليها في لعدم وجود سجلات في مديريات التموين أو الإدارات التموينية على مستوى الجمهورية، مدون بها أسماء مقترفي الجرائم التموينية وأرقام القضايا ونوعيتها والعقوبة المقضي بها عليهم وبذلك يعود مرتكب الجرائم السابقة ويحرر له قضايا ولا يستطيع محرر المحضر من الإشارة في ملحوظة أن هذا المتهم سابق معاقبته على هذا الفعل ببيانات واضحة لديه ولا يوجد أيضا سجلات مقابلة أو قاعدة بيانات في النيابات العامة لذلك فلا يطبق الحد الأقصى للعقوبة على العائد في ارتكاب الجريمة.
رابعا: قيام معامل التحليل المختلفة بفرض رسوم على العينات المرسلة من مديريات التموين وعدم إجرائها إلا بعد سداد تلك المديريات لرسوم المعامل سواء معامل مصلحة الكيمياء أو هيئة المواصفات والجودة أو معاهد بحوث الصحراء والمركز القومي للبحوث الزراعية لعينات الأعلاف والأسمده الزراعية، وقد حدثني صديق متخصص عن تلك المشكلة،حيث تفرض الرسوم على كل العينات المأخوذة من المضبوطات والمحرر بها محاضر من مأمور الضبط القضائي التابع لوزارة التموين والتجارة الداخلية، ويتم وقف أي أعمال في المعامل من فحص وتحليل وتدوين النتائج للعينات المرسلة من جهات التموين حتى يتم سداد الرسوم ولابد من التغيير للصالح العام بسرعة إتمامه في التوقيت الصحيح لعدم إيقاع الضرر على متهم بريء بطول الوقت في حالة إن منتجه صالح وسليم لأن طول الوقت مع سوء التخزين يؤدي إلى فساد عينات خاصة في المأكولات والمنتجات الغذائية، وإطالة أمد التقاضي لمتهم معتاد ارتكاب تلك الجرائم المفترض إنزال العقاب عليه ليكون عبره لغيره ،وبعضهم يقدم للمحاكمة دون ورود نتائج التحليل فيحصل على البراءة.
خامسا: ضروره إنشاء نيابات مختصة في شؤون تداول السلع ومحاربة الاحتكار وارتفاع الأسعار على غرار نيابة شؤون الأسرة، والأحداث والمرور وأصبحت الآن ضرورة ملحة لسرعة الإجراءات ومتابعاتها في القضايا التموينية وسرعة التحقيقات والتصرفات، وتقديم مرتكبي تلك الجرائم لدوائر قضائية مختصة بذات الشأن والمتابع لسير العمل في النيابات يلاحظ في الآونة الأخيرة، كثرة عدد قضايا التموين والقضايا الأخرى التي تعرض على أعضاء النيابات العامة وتؤدي كثرتها واختلاف موضوعاتها في طول وقت إجراءات التصرف فيها كما أن المتهمين في القضايا التموينية يتم إحالة بعضهم لجلسات المحاكمة، ولم يرد نتائج تحليل عينات قضاياهم المرسلة للمعامل وهو ما ينتج عنها غالبا إفلات المتهم من العقاب فيجب على السلطة التشريعية المتمثلة في مجلس النواب القيام بدورها وتفاعل كل مسؤول في موقعه لمواكبة التطورات والأحداث الجارية ووضع تصوراته المدروسة لكبح جماح من تسول له نفسه في التلاعب بقوت الشعب ومقدراته
حتى تنهض مصر الجديدة، التي يسعى الرئيس السيسي، لتحقيقها بالبناء وإنشاء بنية أساسية وشبكة الطرق قوية، وربطها على مستوى الجمهورية وتهيئة بيئة صالحة لجذب الاستثمارات المحلية والعالمية بزيادة الدخل وخلق فرص عمل حقيقية.