- - روشتة الدكتور يسرى عبد الله للنهوض بالثقافة:
تكسير الفجوة المصطنعة بين النخبة والجماهير
اتخاذ خطوات واضحة تجعل المجلس الأعلى للثقافة عقلاً للأمة
وضع سياسات جديدة للنشر تتعامل مع المنتج الثقافي بوصفه عنوانًا للتقدم والحرية - استعادة صناعات فكرية تختص بالمعرفة
- التعامل مع قصور الثقافة بوصفها منارات للمعرفة
- وضع خطط ثقافية قابلة للتنفيذ وليس كلمات مجازية أو مرسلة
عندما وقَّعت مصر معاهدة «الشرف والاستقلال» عام ١٩٣٦، اعتقد المصريون أن بلدهم تسير بخطى ثابتةٍ نحو بناء دولة حديثة، وعكفوا على رسم الخطط للنهوض بتلك الدولة.
ورأى «طه حسين» من موقعه كأديبٍ ومفكِّرٍ ووطنيٍّ، ضرورة أن يسهم فى وضع تصوُّر لمستقبل الثقافة فى مصر، مؤكدًا أنها أقرب لدول حوض البحر المتوسط منها لدول الشرق. ومن هنا فقد أثار الكتاب موجةً عنيفةً من الانتقاد لا تقلُّ عن تلك التى واجهت «طه حسين» حين أصدر كتابه «فى الشعر الجاهلى»، وأنكر عليه البعض إغفاله العلاقات بين مصر والشرق، مؤكدين أن المصريين، وإن كانوا غير مرتبطين بدول الشرق الأقصى، فإن هناك تقاربًا ثقافيًّا لا يمكن تجاهله بينهم وبين الشرق الأدنى، ولا سيما العرب.
من هذا المنطلق استضاف «صالون البوابة الثقافى» نخبة من أبرز المثقفين والكتاب، وهم: الأديبة الكبيرة سلوى بكر، رئيس تحرير سلسلة التراث بالهيئة العامة للكتاب، والناقد الأدبى الدكتور يسرى عبد الله، أستاذ النقد الأدبى بجامعة حلوان، والكتاب الصحفى محمود حامد، مدير تحرير البوابة، وأدار النقاش الكاتب الصحفى محمد لطفى، رئيس القسم الثقافى بجريدة البوابة.
من جانبه قال الكاتب والناقد الكبير الدكتور يسرى عبدالله: «موضوع الندوة «مستقبل الثقافة فى مصر»، يستدعى على الفور كتاب طه حسين، فأى قارئ أو أى مثقف يسمع عنوان الندوة سيحيل الأمر على الفور إلى هذا الكتاب المركزى أو الكتاب (العمدة) فى تاريخ ثقافتنا، وإذا ما عدنا للعام الذى صدر فيه الكتاب، سنجد أننا كنا فى لحظة سياسية فارقة على مستوى الأمة المصرية، فالسياقات التى نشأ فيها الكتاب كانت سياقات ابنة لخلق فكرى وجمالى، وهذا جاء فى أعقاب فترة العشرينيات الخصبة وثورة ١٩١٩ وفى ظل فكرة نمو الروح الوطنية وتمثيلاتها وتجلياتها المختلفة مثل موسيقى سيد درويش وتمثال نهضة مصر لمحمود مختار، وهذه الحالة الفنية والثقافية التى استمرت فترة طويلة شهدت نوبات من الصعود ومن المد، كان من بينها كتاب مستقبل الثقافة فى مصر لطه حسين، هذا الكتاب الذى يطرح مجموعة من الأمور التى تعد صالحة الآن للحياة الثقافية أولا من ناحية التطبيق من جهة، ومن جهة أخرى للتأمل.
هوية مصر
مضيفًا :«صدر الكتاب فى فترة التساؤل حول هوية مصر، محاولا اكتشاف أبعاد أخرى جديدة لهوية مصر مثل البعد الأورومتوسطى وهذا جانب مهم، والكتاب أيضًا مبنى على الإيمان العميق بفكرة التراكم الحضارى المصرى، خاصة أن الثقافة المصرية جزء أساسى من أهميتها أنها ثقافة موصول ماضيها بحاضرها، وهو ما يعود إلى فكرة التراكم الحضارى المصرى، فالهوية المصرية هى هوية ذات جذور مختلفة، فطه حسين من المثقفين القلائل المؤمنين بهذه الآلية وهذه الروح التى أسميها بـ«الروح المصرية الحقة» أو الروح المتجددة لهذا البلد العظيم.
متابعا: رأى طه حسين أن المشكلة المركزية التى تواجه أى حراك ثقافى، هى إشكالية التعليم، ومنها إشاراته على سبيل المثال إلى ازدواجية التعليم بين مدنى ودينى، وفكرة حتمية التركيز فى التعليم الأساسى على ما يسمى باللغة الأم فى المراحل الإلزامية فى التعليم، والتى نجد آثارا لها فى الفترات اللاحقة، ففى هذه النقطة تحديدًا نجد أن أنصار التيار المحافظ سيتعامل مع طه حسين باعتباره من دعاة التغريب، فطه حسين كان مفكرًا تقدميًّا بامتياز، سابقا لأوانه، وهذا كان جزءا من أفكاره فى محاولة من التماس مع مراكز إنتاج الحضارة فى العالم الجديد ومن بينها أوروبا وكان يفعل هذا بوعى شديد، والمسالة الأخرى المتعلقة بالتعليم ما يسمى بالموقف العام للمثقف، وهو ما أشار إليه الكتاب فى بعض فقراته المتناثرة، والتى تفيد فى نهاية الأمر وتضع المتلقى فى حالة تساؤل حول معنى الثقافة ودور المثقف، فنحن الآن فى حاجة إلى تحرير مثل هذه المصطلحات، وهو ما سيحيلنا إلى تساؤلات مهمة حول الدور المأمول من وزارة الثقافة ومؤسساتنا الثقافية فى محاولة لتدعيم هذه المؤسسات من جهة وتطويرها من جهة أخرى».
الثقافة شريك أساسي
ولفت الدكتور يسرى عبدالله إلى أن الثقافة تنجح حينما تمثل حالة مجتمعية وليست مجرد أيقونة تتحرك بين مجموعة من النخب، فكلما تحركت الثقافة بين الناس كلما استطاعت أن تحقق النجاح المنشود، وأن تتحول الثقافة إلى قيمة مضافة لمتن الدولة الوطنية وأن تصبح الثقافة شريكا أساسيا فى معركة الدولة المصرية ضد التخلف والرجعية وقوى الاستعمار الجديد، فاستعادة هذا المعنى باعتبارها جزءا أصيلا ومركزيا وأنها تمثل هذا العون للقلب الصلب للثقافة المصرية فهذه الأفكار هى أفكار مهمة للغاية فى تعامل الثقافة مع الواقع.
تحديث الثقافة
وأكمل: هنا لا بد أن أشير إلى فكرتين أساسيتين، أولاً: علاقة الثقافة الوطنية بمشروع التحديث، والأمر الآخر: ما الذى يمكن أن نفعله من أجل بنية ثقافية أكثر قوة وأكثر قدرة على أن تصبح قيمة مضافة إلى متن الدولة الوطنية، فمشروع التحديث حينما نشير إليه فى العصر الحديث نستعيد إلى الأذهان تجربتين وهى تجربة محمد على وتجربة جمال عبد الناصر، فتسلم هذا المشروع مجموعة من الأفكار والآليات الإجرائية التى أوجدت حالة من الجدل الخلاق والتراكم الكمى الذى أفضى إلى تغير نوعى بطريقة أو بأخرى فى الإسهام فى تحرير الوعى المصرى تارة عبر الاهتمام بالترجمة والبعثات العلمية لاسيما إلى فرنسا، وإنشاء مدرسة الألسن وإفساح المجال لرفاعة الطهطاوى وزملائه فى بدء نهضة حقيقة وجديدة آنذاك، ثم التمازجات التى حدثت فى أعقاب ثورة يوليو بين السياسى والثقافى والإحساس العارم بأهمية القوة الناعمة المصرية التى بدأت فى التأثير الفعلى فى محيطها العربى بل ورفده بقيم مختلفة جعلت الوجدان العام مصريا بامتياز فى فترة الستينيات على وجه التحديد، وربما كان لنكسة ٦٧ أثرها فى تغير المزاج العام وغلق الأفق النهضوى فى المشروع المصرى والعربى، غير أن الشاهد الحى يبدو فى الاحتفاء المدهش فى الثقافة الوطنية التى حمت رهاناتها فى المسرح والسينما والأدب بشتى أنواعه والفنون التشكيلية والموسيقى.
لافتًا إلى أن سؤال الثقافة الوطنية باختصار لا ينفصل عن سؤال التحديث، بل إن مشروع الثقافة الوطنية يعد فى جوهره مشروعًا للتحديث والنهوض يجب تتوخاه الدولة المصرية الآن فى ظل عمل دؤوب لا تخطئة عين.
سياسيات ثقافية
ولفت «عبد الله» إلى أنه لا بد من وجود سياسات ثقافية وخطط واضحة قابلة للتنفيذ وليس مجرد كلمات مرسلة أو مجازية، فالبداية هنا يجب أن تبدأ بوضع مجموعة من السياسات الثقافية الفاعلة، والتى تتخذ بُعدا إجرائيًّا يبدأ من وعى المؤسسة الثقافية الرسمية بخطورة اللحظة وبتحدياتها وتعاملها مع الثقافة بوصفها حالة مجتمعية يجب أن تصل إلى كل القطاعات والطبقات، وأن تسعى إلى تكسير الفجوة المصطنعة بين النخبة والجماهير عبر خطوات واضحة، فتجعل من المجلس الأعلى للثقافة عقلاً حقيقيا للأمة المصرية ومسئولاً عن صياغة السياسات الثقافية المصرية وفق وعى مختلف وجديد وليس وفق المنطق النظرى الذى يخلو من المعنى والإدراك، وأن تسعى إلى سياسات جديدة فى النشر بأن تتعامل مع المنتج الثقافى بوصفه عنوانًا للتقدم والحرية، وهو الأمر الذى سيفضى إلى استعادة صناعات فكرية تختص بالمعرفة، وأن تتعامل مع قصور وبيوت الثقافة بوصفها منارات للمعرفة وليس مجرد أمكنة ترعى فيها الأفكار القديمة فى بعض الأقاليم.