يوم 10 مارس 1989 رحلتْ أمي الحاجَّة فاطمة محمد العزب، بعد رحلة مع الأمراض امتدت لعقود، أجرت خلالها العديد من العمليات الجراحية، ولم تتم أخرى، بسبب ضعف جسمها وأمراض القلب والرئتين اللذين لازماها لسنوات طويلة، وخضتُ معها رحلة أمراضها الأخيرة، ولحظات الرحيل الأخيرة في رحلة سفر بين القاهرة وقريتي "ميت غراب"، بعد رفض الأطباء إجراء عملية جراحية لها قبل ساعات من انتقالها لرحاب خالقها.
وفي شهر مارس من عام 2003 تُوفي والدي المرحوم الحاج الشيخ المرسي محمد الحضري، ولم أتمكن من وداعه، وإن كنت حضرتُ العزاء مساء نفس يوم وفاته، وقد رحل وأنا مغترب خارج البلاد، بعد أيام عصيبة من المرض، وإن كانت قصيرة.
وفي نفس الشهر من عام 1975 رحلت جدتي التي ربتني مع أمي، الحاجة تفيدة علي جوهر، بعد شهور من المرض الذي أقعدها كليًّا، وظلَّت طريحة الفراش، حتى رحلت إلى رحاب خالقها، وظللتُ بجوارها طيلة سنوات أيام مرضها، امتدادا لمعيشتي بجوارها، حيث وجدتُ نفسي منذ وعيتُ للدنيا وأنا في حضنها.
وفي يوم 17 مارس 2022، رحل أخي محمد المرسي الحضري، والذي صادف ليلة النصف من شعبان، بعد رحلة لعدة شهور مع المرض، ليلحق بمن سبقوه في شهر مارس، الذي مثل بالنسبة لي ولعائلتي شهر الرحيل للأحبة، وإن حدثت به أحداث عكس ذلك، ليس مجالها الآن.
مارس صحيح أنه شهر أعياد الأم، إلا أنه ظل شهر حزن، لكونه شهد رحيل عدد ممن أحببتهم، وفي كل مرة أهمس في أذن الأحبة وأنا أقبِّل رؤوسهم وهم في الأكفان، سلموا على الكل، وبلغوهم أنني أحبهم، ومازالت أخلص لهم، وأتذكرهم في كل لحظة، وعند كل صلاة، وفي كل أوقات الدعاء.
الشيء الأكثر حزنا في كل تجربة هو تلك الأمراض اللعينة، التي ابتلي بهم الله كل هؤلاء الأحبة وغيرهم، ونسأل المولى أن يكون في ميزان حسناتهم، وأن يخفف الله الآلام عن كل مريض.
ولأخي محمد معزة خاصة في قلبي، فهو ثالث إخوتي في الترتيب بعد أخي الأستاذ عبد الحميد الحضري، متعه الله بالصحة، وبعد أختي فريدة رحمة الله عليها، وهو مَن تحمل مع أبي الكثير من المشاق في رعاية الأسرة، وكان يد أبي اليمنى في متابعة البيت والغيط، ويجمع بين كل شئ من أعماله لتبقى الأسرة مستورة بين مختلف الأسر.
كان مهموما بتربية الأولاد، ومتابعة مصالح الأخوة والأخوات، فقد تزوج مبكرا وهو في سن صغير نسبيا، والتحق بالقوات المسلحة قبيل حرب أكتوبر 1973، إلا أنه خرج من الخدمة لأسباب مرضية لكسر في الكاحل، ورغم أهمية أخي عبد الحميد في العائلة، إلى أن أخي محمد تحمل العبء الأكبر في رسم خريطة مستقبل العائلة، وكيف نعيش في ستر بين الناس.
فرض أخي محمد علينا نظام المشاركة في الحياة، وأن الكل في واحد، وكل يعين بقدر ما يستطيع في توفير الستر لأسرة قوامها أكثر من 10 أفراد، بخلاف من تكفل بهم والدي من افراد عائلة الجد الأكبر محمد أحمد الحضري، وأصبحوا في رقاب أبي وأمي وباقي أفراد العائلة.
طموح أخي محمد كان كبيرا، ربما يفوق كل الإمكانات المتاحة، إلا أنه صابر وعافر وناضل طويلا داخل الوطن وخارجه، ليحقق جزءا منه، ويقيني أنه حققه في نفسه، وفي أولاده وأخواته، من خلال شعار "الكل في واحد"، الذي استهدفه دون أن يعلنه صراحة.
ظل أخي محمد حتى سنواته الأخيرة مثابرا في العمل، رغم كم العمليات الجراحية التي أجريت له في الأذنين، وفي العمود الفقري، وأجزاء من عظامه، ولم يقعده كل هذا عن "الجري"، متابعا كل مصادر الرزق، حتى وإن تجاوز السبعين من عمره.
إلا أن المرض قد أقعده في الشهور الأخيرة، وآلمني كثيرا نومه على السرير دون حركة، ولم أصدق نفسي وأنا أراه ممددا على سرير المرض، وأن هذا أخي محمد الذي أعرفه، وكانت دائما تقول له أمي وجدتي، "قلب حامي.. وخلي بالك من نفسك، والدنيا لم تبنى في يوم واحد".. إلا أنه كان له وجهة نظر أخرى.. أن الدنيا أسرع كثيرا..
أكثر من كسر أخي محمد هو وفاة زوجته أو "أمّه فوزية" كما كنا نناديها في العائلة، قبل أربع سنوات، لتبدأ من يومها رحلة الإنكسار والرحيل.
رحماك يا رب بكل من رحل وكل من أحببنا.